ابراهيم زيدان في (لا شذى إلا شذاك)
قراءه:
محمد الأحمد
يناورُ
الشعر ما بين العتبات فتارة يلعبُ بالمفردة- المرأة- ككينونة هائلة الوقع متغزلاً
بها جمالاً، صوتاً، وأداءاً، فتكون في موضع من الوطن- الحضن، ويكون الوطن كونّاً
يمتد من الافق الى الأفق فالشعر ينتج صورا متلاحقة، متتابعة تنبثق الواحدة من
الاخرى لتحقق معنى يقارب رسم مجرة تحوي شموساً وكواكب تديرها منظومة تجاذبية
الاخرى تؤثر على الاخرى كما في موازين الشمس التي تعطي ارضنا كل توازنها.. فالشعر
(من اليونانية poiesis) هو شكل وفن أدبي يستخدم الجمالية والصفات بين بقية الفنون
البصرية، والحسية. كما جاء في مقصد ابن خلدون حول الشعر: (هو كلام مفصل قطعاً
قطعاً متساوية في الوزن، متحدة في الحرف الأخير من كل قطعة، وتسمى كل قطعة من هذه
القطعات عندهم بيتاً، ويسمى الحرف الأخير الذي تتفق فيه رَوِيّا وقافية، ويسمى
جملة الكلام إلى آخره قصيدة وكلمة، وينفرد كل بيت منه بإفادته في تراكيبه، حتى
كأنه كلام وحده، مستقل عما قبله وما بعده، وإذا أفرد كان تاماً في بابه في مدح أو
نسيب أو رثاء). فالشاعر ادرك وحدة الهم الذي ينشد الخلاص منه، فأكد بأدوات ذكية
التورية، والتسلسلية الحريصة في وصول شفرته الى المتلقي، ولأجل ان يبقيه متواصلا
مع القصيدة التي يكتبها، لان الشاعر اصبح يدرك بأنها فرصة واحدة هي تلك التي يحظى بها
من قارئه، وهو شديد الحرص عليها، في عالم ازدحمت فيه رسائل الاثير المثيرة من
فضائيات وصفحات ويب، وخاصة صارت تحوطه من كل جانب في يُسرّ، فالشاعر مدرك لهذه الألوان
والمغريات التي تريد ان تأخذ منه قارئه، فصار يعرف ما له وما عليه، وان يجعل قارئه
يتمسك بما يرسل اليه، فتوسعت الادوات لدى الشاعر وصارت المعاني مبنية داخل قصائد
تعادل سردا متواصل الصورة، وتتبادل فيه الاماكن فالإحساس بالمقاصد، (وطن/ امراة/
كون)، (امراة/ وطن/ كون) فيرسل رسائله البديعة ضمن ما يستنتج القارئ.. (أيتها
القناديلُ التي أشعلتني من رمادي. آه... يا بلادي التي أخرجتني من رقادي، وأضاءت سماءَ
روحي أيها الشذى صرت بلسماً لجروحي أفيض لهفةً إليك) فالعقل حينما يتعامل مع
الصورة، فانه سيقوم بالبحث عن معنى ثابت لها بنوع من التفكير الإحصائي ذلك المعنى
الثابت الذي يخفق في التواصل مع حياة الصورة المتجددة دوما. (فأشتهيك ِ كل َ حين..
أيتها التفاحةُ التي طردت آدم من الملكوت. تمدينَ لي ثديكِ بخفوتْ، كي لا أموتْ). متواصلا
مع طروحات (باشلار) خاصة في كتابه المهم (شذرات عن شاعرية النار)، قائلا: (لقد
قضيت حياتي اعمل على جانبين، احداهما يندرج تحت علامة التصور، والآخر يندرج تحت
علامة الصورة)، وفي مكان اخر يقول ان الصور لا تصنف باعتبارهما تصورات، فهي لا
تحصر نفسها في دلالتها المعبرة –انما- على العكس من ذلك- انها تقصد تتجاوز دلالتها المعبرة دوماً. (multifonctionnelle) عنئذ فالخيال متعدد الوظائف)، فالشاعر
(ابراهيم زيدان) يوازن في قصيدته الاخيرة بين النداء والفكرة الحسيّة التي يبني
هكيلية معانيه عليها، بوصل (فخذيني أيتها
العيونُ التي لم تسع أحلامنا وارسمي لوحة ًمن دمي لعلني أرتمي بأحضانكِ مرةً، فأنتمي
للندى والحنين).. فالشعر قد ضبط معطياته بادراك الشاعر نفسه نشأة صوره المتتابعة
في حاضنة لسانية فلسفية حافلة المعنى، وفق منظموته السردية البليغة:- (أمضي باحثاً عن فضاء ٍ أثير. فأرى عنقودينِ يتدليان
ِ بحلمتينِ من عسلٍ.. امتص ُ رحيقهما فأولد ُ ثانيةً، وأنهض من الخراب).. استكمل
الوحدة الموضوعية في دعوة الى التفكير في الاشياء بدل التفكير في الجواهر
والمطلقات والكليات.. متوافقاً مع تصور التوحيدي للجمال (على اساس النظر الى الله
باعتباره وجودا مطلقا يجسد المثل الاعلى للجمال، وليست الكائنات الاخرى سوى مرايا
غير مكملة لهذا الجمال، تستلهم بهاءها وجمالها منه)، فالشاعر جعل الجمال افقا
رمزيا واجتماعيا وحضاريا هاما يتيح تأمل الذات والمجتمع، فأخذتنا القصيدة الشفافة
حيث الانسان وهمه المطلق، مستترة بقناع فني يشار اليه بالجمال والإبداع في انتاج
دالة عراقية استمدت شحنتها من شفافية مالها الى مسارات ثلاثة (اولها الفهم وقد يقع
مباشرة في غير حاجة الى الثاني وهو التفسير او الثالث حيث التاويل على ان تظل
النصوص المباشرة هي الاكثر ملائمة في منطق للغة للشرح او التفسير الى يقع اللفظ
على الخروج من المعنى الحقيقي الى المعنى المجازي، وتنحرف اللغة عن مسارها الطبيعي
في بحثها عن الجمالي والمطلق والمجرد، فتقوم قيامة القراءة وتدخل عوالمها الرحبة
من الدلالات التي يصعب معها التوقف مع واحدة دون اخرى[1]). لقد اجاد (ابراهيم زيدان)
المناورة في قصيدة (لا شذى إلا شذاك) مثبتاً بحرص بأنه المتجدّد المتصل في الحاضر.
[1] حسن حنفي – قراءة النص (مجلة ابداع المصرية)