(سماء
الاصوات) للشاعر (محمد مدحت حسن)
قراءة:
محمد الأحمد
قد
توقظ القصيدة اسئلة مؤرقة لتكون شاهدة عصرها على مسيرة إنسان اخذته الاحلام
ألضائعة اكثر من الاوهام التي فرضت حضورها عليه فكراً، وامتدادا لماض مقموع لا
يتصل بحاضر متحرر.. خاصة بعد ان حضر العصر صدّاماً موضوعيا يلغي نفي العقل، و يتصل
بمفهوم الفكرة الأصلح والأثبت.. فالقصيدة مكون تراكمي من ثقافات تصاعدت كالمدن
التي حضنت الأنهار وامتدت لتكون موروثاً متناسقاً من اللغة، والهندسة العمرانية،
والتسامح.. على اعتبار ان البشر خطّاء، ومسيرته كلها قصيدة لتصحيح تلك الأخطاء كما
كتبها هوميروس في الياذته الذائعة الصيت، والتطبيق، فقد اراد ان يؤسس الانسان
الاول نقطة ارتكازه على نقطة وجوده واخذ يتسع حول النقطة التي صارت محور كينونة
تفترشها الموسيقى الكونية، والمفردة الحادة، المحددة.. فـ(في السبعين يتنهد وهو
يتنفس، رجل يجلس تحت عريشة عنب أخضر بين نهرين على الحافة ذاكرته الشاسعة خالية من
المدن ونسائها- ص45)، الشاعر يجابه المفردة بسحرها، ويحاكمها على انها نتاج عقل
تواصل بالتدوين، والتاريخ هو لم يكن منتصراً على كتابه، ولو كان منتصرا لما كتبه
المنتصرون، فثمة مقارنة ما بين النهر، والنهر، وما بين المدينة والاخرى.. حيث
المدن امتدت اقانيم ثقافة متبادلة متطورة متواصلة الواحدة بجارتها، كما يرمم
ادونيس الفكرة بأن (الابداع الجديد متواصل مع الابداع القديم، وان الحداثة نوع من
الاستمرار لما في الماضي من الرؤى الخلاقة. وهذا الاستمرار متناقض مع الاستمرارية
التقليدية – الخيطية. فالقول السائد بهذا النوع من الاستمرارية يكشف عن موقف يرى
التراث كانه كبّة غزلّ يلتف على نفسه حاملا خصائص الخيط الواحد، الموحد[1])، الشعر اكتشاف لذاكرة
تتحدى النسيان، بل وتطمره بزحفها المتواصل بالمعرفة اذ ينهض النسيان من التدوين، ينتفض
كمعلومة تحتاج الى المعلومة الاولى التي اثارتها فلا يكون النسيان نسياناً. كذلك
الكتابة، لا تكون حروفاً يفترض مساحتها الحاضرة على الذاكرة المختزنة كمدينة
معرفية قائمة بتاريخها، ومكانها (متى كان العالم مغلقاً ومعلقاً بين فكي ايام
قصيرة مثل الآن ص20), الشعر مدن في ذهن الشاعر تتواصل، معرفيا من شفرات تقرأ وتهدم
ما كان قبلها، حيث الشاعر يتجنب الهدم ولكنه يفترضه كحال واقع فيكون انزياحا
بمعرفية اكثر تواصل مع عصرها (سماء الاصوات سقطت فوق الاحلام في الكتب، غنّت لي
حياتك من مصادفة الرايات الصغيرة. سكتُّ، لن اهزم من إيمائه ولكني خفت على رائي
الخوف في الشقوق. وخفت ان يولد معنى اخر لأجنحة الدم.. خفتُّ وتركت فمي يسيل أقصد
إني محوت الذئب بالصمت- ص 14)... تتوالى الاسئلة في قصائد قصيرة حملت زخة مطر
مبللة، قصائد اسمت نفسها باقناص اللحظة الاولى لبدء السؤال، والسؤال الذي ينزل
مطرا من السماء ليعيد للارض خضرتها، فيكون الماء رمزا لتواصل العطاء، فيتواصل
الشعر عند (محمد مدحت حسن)، تواصلاً متوالياً فالفكرة تختصر السؤال، والسؤال، يريد
اجوبة حاضرة بالمعرفة، (فالكلمة الشعرية تستدعي ما يكون هناك في العالم الخارجي
لكي يكون قريبا منا حاضرا في الكلمات، وكان الكلمات هنا بمثابة - قواقع الكلام او
الحديث- كما عبر عنه باشلار في كتبه شاعرية احلام اليقظة بقوله: نعم حين نسمع بعض
الكلمات كالطفل الذي يسمع البحر في قوقعة- د.غادة الامام[2])، فالمفهوم وفق النظرة
البشلارية هو الوسيط الذي يبدع بنفسه كل جديد، فالصورة ليست قصية في القصيدة انها
مرسومة بعناية ومتواصلة (الخيال الادبي هو ايجاد الواقع بالكلام، هو الرسم
بالكلمات- من كتاب لهيب شمعة لبشلار)...
(سماء
الاصوات[3]) دعوة قرائية لشاعر اراد ان
يسال ويعمق اسئلته بالمعرفة ألتاريخية فثمة موسيقى ذكية تنداح من اسطره الدفّاقة
بالمعاني، بحضور يجعلنا نقرا المجموعة بحبّ وشغف مؤشرين: أنه شاعر الذي حضر عصره بأسئلة
جدية، تفرض حضورها بحضور قصائده الطيبة..
21-
كانون الثاني -12
[1] ادونيس زمن الشعر ص 145 الصادر عن دار الساقي
لندن
[2] جماليات الصورة
ص315 طبعة دار التنوير2010م
[3] مجموعة شعرية صادرة عن مكتبة عدنان شارع المتنبي
ببغداد...
No comments:
Post a Comment