نصوص (حربيات) للقاص مشتاق عبد الهادي
قراءة: محمد الأحمد
غالبا ما يُذكي النصُّ الذكيُّ اوجاعاً بالغة الوقع حينما يحقق كـ(نص ادبي) هويته التدوينية الشاهدة على عصرها النازف في زمن الصراعات والمطاحن والحروب الإقليمية. فالنص الشاخص يشبة علامة بارزة تكشف وجه عصرها، وأزماته لتخترق بتحدّ كلّ رغبات الرقيب، ومقصاته الدامغة. وتكون بثقافة سمتها العمق المعرفي، ومساحتها الزمن (التاريخاني) كما ذهب (جورج لوكاتش)، فالكاتب (مشتاق عبد الهادي في مجموعة نصوصه الموسومة بـ "حربيات" الصادرة عن دار الينابيع 2011م) هو مسار الأزمنة وخطها الذي يشير الى كل ما هو محذوف بدلالة الشاهد على الغائب والغائب بأثره المحفور، المستنتج، المعلوم. كما يُجزم (دولوز) أن الإشارات تُفضي إلى التعلُّم، ليس إبداعياً فقط، إنما حياتياً أيضاً: (لا يصبح المرء نجّاراً، إلاّ إذا كان حسّاساً حيال إشارات الخشب، أو طبيباً، حيال إشارات المرض. فالموهبة هي استعداد أولي إزاء الإشارات)، فالكتابة هي بوح لا يتأخر، يعطي الصورة الحقة ليأخذ موقعه في مسيرة موقف من الحياة والمجتمع، يدوّن الصورة ليكشف ما على الانسان من استلاب فيكون احتجاجاً صارخاً.. ذلك النص الشفيف الذي استدرج ذاته في لحظة كتبت وهي تنزف ألماً، وتبوح بما لم تبحه النصوص العراقية، كمن يرمي حجراً في الماء ليحركه- لتبدو- تقرّب فهم النص الذي ينطوي على علاقة جدلية بين النص في مجمله من ناحية، وقارئه باعتبار هذا النص لحظة تاريخية وسياقة اجتماعية مغايرة. (انهارت في لحظة جميع النظريات التي تؤكد عدم جدوى السلاح، فها هو قد تحصن من الجوع لساعات بعد ان قايض البندقية برغيف خبز يابس- ص7) لقد غيبت النصوص سردها القصصي، ونفت صورها الموصوفة بشعرية مختزلة، شفافة، اذ صارت الاشارة فيها تكمل ما اراد الكاتب ان يسرده كقصص قصيرة جداً، جاءت في اغلب العتبات كرسائل قصيرة (مُبرقةٌ).. حيث احتوى الكتاب على فهرس متكون من ثلاث عشر مجموعة انضوت كل واحدة منها على نصوص قصيرة عدة . صارت شخوصا، وصارت مفارقات، كجنس حديث اقتضته ضرورة العصر، من سرعة واختزال. نصٌ اراد الرميّ، فأصاب.. نصٌ ادبي اختلف المختص حول تسميته، بعضهم قربه من مصطلح القصة القصيرة جدا (اقترب من الصورة)، والبعض الاخر ابعده الى قصيدة النثر (ابتعد عن السرد). وغالبا ما يحتاج الى منهج نقدي يركز على تفسير النص بشكل عام وربطه بزمن كتابته، وأيضا محاولاً فك العقد المتشابكة حول طبيعة النص (كجنس ادبي) وعلاقتها بالكاتب وعلاقة بالموروث، والأسطورة، والوجود (اخر الفتاوى تلقاها تؤكد ان النقاء رجسّ يجرك لبساتين السماحة البغيضة، لذلك فجر صحون الحليب- ص 49) بالإضافة الى علاقات النص بطبيعة كاتبها النفسية، لاجل ان يركز على علاقة المفسر بالنصّ في استقلال عن قصدية المرسل. كون الذات الساردة بعدت عن العنصر الاساس الذي يجعلها ساردة صورة متكاملة، فالعلاقة متكونة من الدال والمدلول، والتركيب يعني علاقة الكلمات ببعضها، والتبادل يعني التشابه والاختلاف بين شيئين.. كلّ يستنتج الشفرة وهي التي تحدد الدالة الأدبية.. (يستبدل فواكه بستانه الطرية بفواكه المومسات التالفة لا لشيء إلا لأنه كان مولع بمقايضات المختلفين- ص81). فوظيفة التحديد المفرط تتوخى الوضوح، كوظيفة التحديد الاقل تتوخى الغموض.. فذا كان منهج (هيجل) في مثاليته وموضوعيته تناقش كون الفكرة هي الروح وهي ذاتها جوهر العالم، وعلى ان الواقع بظواهره ونشاطاته واشيائه تجسيد لهذا الجوهر وتعبير عنه.. اي ان الوعي سابق على الوجود والواقع تجسيد للفكر ومظهر له، فان اغلب نصوص الأرض قاطبة، تتخذ المنهج الموضوعي القائم على جدل (اساس العالم يخضع في تطوره لحركة جدلية لصراع داخلي يدفعه الى الحركة والتغيير بالانتقال الى نقيضه)، فالنصوص التي حملها كتاب (حربيات).. هي نصوص استثنائية لها كيان بشكل اعتراض واحتجاج ورفض.. اعتراض في طرح المضمون واحتجاج على الاستلاب ورفض للشكل السردي، فاغلبها نصوص جاءت مشحونة بلغة تشير الى انها تحتاج الى قارئ متفاعل بزمن، وثقافتة كاتبها.. حيث يؤكد (فولفانغ آيزر) التفاعل بين النص والقارئ.. (تكون شفرة ما محددة بإفراط حينما تكون معلوماتها السردية الساخرة، والتاويلية والرمزية واضحة جدا ومشفرة بإفراط وتعود الى ما وراء نطاق الحاجة الى المعلومات، وعندئذ، وبمعنى معين يكون القاريء مشفرا بافراط ايضا ويظهر في النص "متكلفاً" احيانا مثل شخصية خارجية كما في الحالة التي نوجه الكلام فيها الى شخص بصورة مباشرة ).. لقد اختزل النص مساحة رائعة من القول وكان بالرغم من بعض هنات العجالة ان يعطينا شحنة من الكلام الذي بقي يتفجر في الذهن، ويتعاطف مع الهمّ العراقي الكبير. لقد استطاع (مشتاق عبد الهادي)، ان يحقق نصاً جميلا يدلّ على كاتبه، ويدل على زمنه ومساحة ارضه.. (كان يراقب بحزن رتيب سماء تمطر ضوءاً حال وصوله الارض ينطفئ ليتحول الى عتمة مطبقة- ص91).. طوبى لنص يستمر القول بعد قراءته فيثير جدلا، واستحسانا بمحبة..
الخميس، 02 شباط، 2012
قراءة: محمد الأحمد
غالبا ما يُذكي النصُّ الذكيُّ اوجاعاً بالغة الوقع حينما يحقق كـ(نص ادبي) هويته التدوينية الشاهدة على عصرها النازف في زمن الصراعات والمطاحن والحروب الإقليمية. فالنص الشاخص يشبة علامة بارزة تكشف وجه عصرها، وأزماته لتخترق بتحدّ كلّ رغبات الرقيب، ومقصاته الدامغة. وتكون بثقافة سمتها العمق المعرفي، ومساحتها الزمن (التاريخاني) كما ذهب (جورج لوكاتش)، فالكاتب (مشتاق عبد الهادي في مجموعة نصوصه الموسومة بـ "حربيات" الصادرة عن دار الينابيع 2011م) هو مسار الأزمنة وخطها الذي يشير الى كل ما هو محذوف بدلالة الشاهد على الغائب والغائب بأثره المحفور، المستنتج، المعلوم. كما يُجزم (دولوز) أن الإشارات تُفضي إلى التعلُّم، ليس إبداعياً فقط، إنما حياتياً أيضاً: (لا يصبح المرء نجّاراً، إلاّ إذا كان حسّاساً حيال إشارات الخشب، أو طبيباً، حيال إشارات المرض. فالموهبة هي استعداد أولي إزاء الإشارات)، فالكتابة هي بوح لا يتأخر، يعطي الصورة الحقة ليأخذ موقعه في مسيرة موقف من الحياة والمجتمع، يدوّن الصورة ليكشف ما على الانسان من استلاب فيكون احتجاجاً صارخاً.. ذلك النص الشفيف الذي استدرج ذاته في لحظة كتبت وهي تنزف ألماً، وتبوح بما لم تبحه النصوص العراقية، كمن يرمي حجراً في الماء ليحركه- لتبدو- تقرّب فهم النص الذي ينطوي على علاقة جدلية بين النص في مجمله من ناحية، وقارئه باعتبار هذا النص لحظة تاريخية وسياقة اجتماعية مغايرة. (انهارت في لحظة جميع النظريات التي تؤكد عدم جدوى السلاح، فها هو قد تحصن من الجوع لساعات بعد ان قايض البندقية برغيف خبز يابس- ص7) لقد غيبت النصوص سردها القصصي، ونفت صورها الموصوفة بشعرية مختزلة، شفافة، اذ صارت الاشارة فيها تكمل ما اراد الكاتب ان يسرده كقصص قصيرة جداً، جاءت في اغلب العتبات كرسائل قصيرة (مُبرقةٌ).. حيث احتوى الكتاب على فهرس متكون من ثلاث عشر مجموعة انضوت كل واحدة منها على نصوص قصيرة عدة . صارت شخوصا، وصارت مفارقات، كجنس حديث اقتضته ضرورة العصر، من سرعة واختزال. نصٌ اراد الرميّ، فأصاب.. نصٌ ادبي اختلف المختص حول تسميته، بعضهم قربه من مصطلح القصة القصيرة جدا (اقترب من الصورة)، والبعض الاخر ابعده الى قصيدة النثر (ابتعد عن السرد). وغالبا ما يحتاج الى منهج نقدي يركز على تفسير النص بشكل عام وربطه بزمن كتابته، وأيضا محاولاً فك العقد المتشابكة حول طبيعة النص (كجنس ادبي) وعلاقتها بالكاتب وعلاقة بالموروث، والأسطورة، والوجود (اخر الفتاوى تلقاها تؤكد ان النقاء رجسّ يجرك لبساتين السماحة البغيضة، لذلك فجر صحون الحليب- ص 49) بالإضافة الى علاقات النص بطبيعة كاتبها النفسية، لاجل ان يركز على علاقة المفسر بالنصّ في استقلال عن قصدية المرسل. كون الذات الساردة بعدت عن العنصر الاساس الذي يجعلها ساردة صورة متكاملة، فالعلاقة متكونة من الدال والمدلول، والتركيب يعني علاقة الكلمات ببعضها، والتبادل يعني التشابه والاختلاف بين شيئين.. كلّ يستنتج الشفرة وهي التي تحدد الدالة الأدبية.. (يستبدل فواكه بستانه الطرية بفواكه المومسات التالفة لا لشيء إلا لأنه كان مولع بمقايضات المختلفين- ص81). فوظيفة التحديد المفرط تتوخى الوضوح، كوظيفة التحديد الاقل تتوخى الغموض.. فذا كان منهج (هيجل) في مثاليته وموضوعيته تناقش كون الفكرة هي الروح وهي ذاتها جوهر العالم، وعلى ان الواقع بظواهره ونشاطاته واشيائه تجسيد لهذا الجوهر وتعبير عنه.. اي ان الوعي سابق على الوجود والواقع تجسيد للفكر ومظهر له، فان اغلب نصوص الأرض قاطبة، تتخذ المنهج الموضوعي القائم على جدل (اساس العالم يخضع في تطوره لحركة جدلية لصراع داخلي يدفعه الى الحركة والتغيير بالانتقال الى نقيضه)، فالنصوص التي حملها كتاب (حربيات).. هي نصوص استثنائية لها كيان بشكل اعتراض واحتجاج ورفض.. اعتراض في طرح المضمون واحتجاج على الاستلاب ورفض للشكل السردي، فاغلبها نصوص جاءت مشحونة بلغة تشير الى انها تحتاج الى قارئ متفاعل بزمن، وثقافتة كاتبها.. حيث يؤكد (فولفانغ آيزر) التفاعل بين النص والقارئ.. (تكون شفرة ما محددة بإفراط حينما تكون معلوماتها السردية الساخرة، والتاويلية والرمزية واضحة جدا ومشفرة بإفراط وتعود الى ما وراء نطاق الحاجة الى المعلومات، وعندئذ، وبمعنى معين يكون القاريء مشفرا بافراط ايضا ويظهر في النص "متكلفاً" احيانا مثل شخصية خارجية كما في الحالة التي نوجه الكلام فيها الى شخص بصورة مباشرة ).. لقد اختزل النص مساحة رائعة من القول وكان بالرغم من بعض هنات العجالة ان يعطينا شحنة من الكلام الذي بقي يتفجر في الذهن، ويتعاطف مع الهمّ العراقي الكبير. لقد استطاع (مشتاق عبد الهادي)، ان يحقق نصاً جميلا يدلّ على كاتبه، ويدل على زمنه ومساحة ارضه.. (كان يراقب بحزن رتيب سماء تمطر ضوءاً حال وصوله الارض ينطفئ ليتحول الى عتمة مطبقة- ص91).. طوبى لنص يستمر القول بعد قراءته فيثير جدلا، واستحسانا بمحبة..
الخميس، 02 شباط، 2012
No comments:
Post a Comment