محمد الأحمد
بات يصعب على السارد أن يجد اليوم موضوعة يأخذ
بها المتلقي كي يبث من خلالها شفرات انفاسه المعرفية ومساحاتها الباهرة، بعد ان اختنق
اثير عالمنا بملايين القنوات البالغة الاثارة، السخية، المتواصلة، تجتذب بكل ما
عندها من غواية او اغراء لأجل ان تقنعنا بما عندها من غايات آنية ونيات مستقبلية، بالرغم
من انها لا تقدم للمتلقي الا مادة واحدة تصلح لتسطيح عقله، وتسخر بسماجة من كيانه
ومورثه الثقافي. مادة ملونة، باهرة، لا تستطيع الصمود امام مادة اخرى، مقدمة من
قناة تنافسها في مشروعها.. بل تصطرع معها على الشاشة ذاتها. اذ استبدل قلم الحبر
بلوحة مفاتيح الحاسب، وغَدِيَ القلم وحبره عرضة
للحرج في عصر المعلومة التي باتت تطير عالياً، وتنزل بلمحة بصر، وتستقر بكل
ثقلها امامنا مذللة ثقل الورق، وكمّه.
فأزادت مخاوفنا على مستقبل تلك المسرودات التي
كانت مكتوبة على ورق مهما رخص ثمنه، بات المتلقي لا يتحمل عبأ كلفته. اذ صار
الكتاب الالكتروني سهل التناول، وتراكم معه العديد من الكتب الاخرى، مسببا ذلك الكم
المتراكم ضيقا في الوقت، وتيها امامها حيث لا يتسع العقل لكل تلك المعلومات
المتناقضة.
كيف ستكون حاضرة عصرها، لتوازي ما يتسابق
اليه العالم الجديد، اين يستقر مطاف تلك السرديات المكتوبة بالكلمات والحروف، وهي
الاكثر ثقلاً من تلك السرديات المتحركة على شاشة الألوان السينمية، السريعة،
الكثيفة الاحداث..
فاغلبها باتت تكشف عن ساقين مليحتين وصدر شهي
شاهق نافر لطرف، وللطرف الاخر عن عضلات مفتولة، فاتنة، لتجتذب نقطة الحس البشري، حتى
تناغم السرديات الروائية المهمة تقنيات العصر، ولا تأخذ منه مجهودا. تلك المرويات
العظيمة المقدمة بواسطة الدراما التلفازية، سهلة القبول، ولن يبذل معها جهداً سوى
ان يأخذ معها صحن "بوشار"، ويخفف عن نفسه.. ذلك لا يختلف كثيرا مع نظرية
القارئ الضمني، حيث يكون المتفرج الضمني، وعملية التلقي بوصفها خيال المؤلف، وخيال
القاريء/ المتفرج الفعلي، حيث يبثّ المؤلف خطابه عبر شفرات اجتماعية وثقافية،
وغيرها. ليتلقى منه حل هذه الشفرات فيما يترك المؤلف من فجوات نصية، لتندلع في
مخيلته عمليات التنبؤ والاستعادة لوحدات ذلك النص المرئي، حسب طروحات نقاد كبار
مثل "ولفانج ايزر".. حيث تكون حلقة من حلقات الرواية البصرية، عند
اكتمال العلاقة بين القول والصورة، وايضا حسب نظرة جوليا كريستيفا "الذات
ليست ابدا مجرد الذات الواعية الساكنة المضبوطة، وليست ابداً مجرد الذات الظاهرة
الساكنة المعبر عنها خيالياً بهذا الشكل او بذاك- من النوع الذي يمكن ايصاله
للآخرين؛ بل هي ايضا ما لا يمكن التحدث عنه، ما لا يمكن تسميته: ذلك الشكل المكبوت
الذي يمكن معرفته من خلال آثاره".. من بعد ان صعبت مهمة السارد الكاتب؛ فبات
عليه ان يجتهد في اختيار جديده حتى يعود اليه القارئ. فعليه اولاً يلمّ الماماً
بما سيذهب اليه من مجهود، ويجب ان يكون مقنعاً به، "ان تكتب رواية، عليك
اولاً تدعها تقدم لقارئها حلول الغاز يتمنى حلّها، لان قارئ اليوم بات من الصعب
جداً ان يعود الى الكتاب المطبوع الذي يحوي بين طياته جنس الرواية الذي قارب على
ان ينهار عبر فضائيات تقدم له الواناً لم يألفها من الغرابة، وقد لا تطرقها
الرواية المكتوبة للمكتبات".. وحسب راي "بردائيف" الأنا تتغلب على
عزلتها بوسائل عدة كالمعرفة والحياة الجنسية، والحب، والصداقة، والحياة الاجتماعية
الاخرى، والاعمال الاخلاقية، والفن..
·
هل يمكن القول ان اجتهاد السرد الغاوي
بواسطة معلومة متفردة هو بداية عصر الرواية الجديدة التي سوف لن تتخلى ابدا عن
السرد السينمي في فترة ما بعد السارد السينمي البالغ التقنية؟
دائماً عقل السارد "البالغ/
البليغ" يحتاج الى موضوعة شيّقة حتى يقدمها الى قارئه، ولأجل ان ويقنعه وفق
ما يريد، فيقوده بتشويق مقدما اليه افكار جديدة تشغل حيزاً بين بقية الافكار التي
يمتلأ بها عقل متلقيه، حيث لا تذهب الافكار الراسخة الا افكار جديدة وجدية في
تعاملها مع عقله، حتى يستطيع السارد أن يُعَبِّرْ عن ماهية وجوده الفينومولوجي. فالكتابة
سياق لتفكير يعبر عن الدواخل، وكل ما حاضرة في زمنها كانت شيقة العطاء، وتكون
متناغمة مع المكان الذي سوف تستقر فيه، فتزيح افكار سابقة لها، كون الأفكار
الجديدة المنطقية دائما هي التي تزيح الافكار الضيقة، فتتحول من اسطر مرئية الى
صورة عينية لها مساحتها في الفكر، وتجول عليه كأنما صورة متحركة. تنعكس للعقل فتوصل
غايتها.. تحاول الثبات في عقل متلقيها لتجعله اسيراً لها، ومطيعاً لكل معانيها..
وحسب استراتيجية وصايا "ايتالو
كالفينو" الستة للألفية الجديدة. السرعة، الخفة، الدقّة، الوضوح، التعددية،
والتماسك في عالم يفتقر للكمال.
يتوجب على السارد ان يجعل من كتابته اسطر تفوح
بعطرها، فتغوي القارئ الحصيف الى بواطنها، تأسره الى ما تريد، كأنها تحتجزه، وتبوح
له بكل عطرها وسحرها. تنهل اليه كمسرى الماء من النبع، فالسرد في اللغة:
"تقدمة شيء إلى شيء تأتي به متسقا بعضه في أثر بعض متتابعا"، و"سرد
الحديث ونحوه يسرده سردا إذا تابعه. وفلان يسرد الحديث سردا إذا كان جيد السياق له
وسرد الشيء سردا سرده وأسرده: بلغه"..
"ولان الفرد مقولة بيولوجية طبيعية لا
تشمل النبات والحيوان وحدهما، ولكنها تشمل الحجر والزجاج والقلم.. أما الشخصية
فمقولة روحية، هي الروح محققة لنفسها في الطبيعة عبر تماسها مع الوجود[1]"..
الشخصية لا يمكن ان تكون جزءاً على الاطلاق، لأنها بناء الذات بالاكتساب، وعبر
انعكاس الطبيعة فيها وفق التفسير المعرفي.
والأمر مختلف لدى "جاستون باشلار"
في تعامله مع موضوعة العزلة التي يتوافق بها "بردائيف" مع
"برجسون"، لأن "باشلار" يراها تدخل في تفسير المبادلة
الدينامية بين العقل "الذات" والواقع "الموضوع"، لطالما ان
الوعي هو دائماً وعي بعالم وموضوعاته، فبدون العالم لا يوجد وعي او حضور، وبدون
هذا الحضور لا يوجد تواصل وارتباط بمعنى لا يوجد ابداع، فالوعي يعني تواصل مع
العالم لأنه مشروط بأثارة الانسان "باشلار يرقص على موسيقاه الخاصة[2]"
..
·
اين يصل السارد التقني
وكيف تتكون نظرة السارد الاعمى؟
قد تكون الإشكالية تكمن في اعادة التذكر،
واعادة حكاية قد حدثت على الواقع، كما يفعل العظيم "بورخس" حيث يستحضر
الصورة قبل الكلمات، او لنقل يختار الكلمة التي تحوي صورة لتعكس كلمة الصورة. فيكون
التذكر كما يبغي الاعمى ان يصور ما يريد تصويره بما خزنت ذاكرته قبل العمى،
بافتراض ان الحادثة التي يرويها حدثت بعد ان فقد بصره.
وكل هذا برره "امبرتو ايكو[3]"
حول سؤال مهم سال حوله:
- (هل التاريخ علمٌ حي)؟
فطفق مجيبا: "في رواية (باودولينو) استخدمتُ
التاريخ لخلقِ الأدب، لكن في رواية "مقبرة براغ" استخدمتُ الأدب لسرد الحقيقة
التاريخية، ثم لكشف النقاب عن تزويرٍ تاريخي".
اللغة اساساً نسق، والافكار بأهميتها تفترض
ثباتها وانسقها، والافكار هي التي تملأ النصوص بالمعاني، كأنما قول
"فوكو" ما اكثر الكلام ولكن النصوص قليلة" لم يكن عابراً، النصوص
هي كم الكلام، ولكن كم المعنى، فالكتابة المليئة غواية، تحتجز العقل الذي يحتاجها،
فتتسرب افكارها كبلورات مضيئة تعطي ضوئها وتضيء له العتمة القاتمة. "العامل
المشترك لكل اللغات هي كتلة الفكر التي لا شكل لها"، ووفقا كما يؤكد عالم
اللغة والسيميوطيقيا "لويس هيلمسيف" "يمكن تخيل لغة من دون نص، الا
انه لا يمكن تخيل نص من دون لغة".
·
الأديب الشاهد
ام السيناريست الشاهد
دائما ينبثق السؤال مشعا من بين تلك الاحرف
اللوحية حول جدل التوازن موضوعته حيادية المُسردْ تحت عين محركات البحث الفائقة
السرعة، كمادة تاريخية تميل وفق ما تفرضه عُنْجِهْية كل باغي، ولم يعد امامه الا التأكيد على دقة
وجهة النظر:
1.
ساحة المكان: الوصف الدقيق يعطيه عمقاً، ويكون له بعد في
الزمان حيث بناء بيت خيالي على بقعة ارض معلومة.
2.
الشخصيات: الشخصيات وحركتها ونوادرها وتبرير وجودها
على المكان يعطيها ثباتاً كافياً للاستمرار في الحياة الروائية، فالروائي مثلما
الربّ الخالق يمنح شخصياته الحياة ويسلبها متى يريد، ويتحكم بحضورها او موتها وهو
المسؤول عن تخلخل الثقة بين القارئ وسارد المعكوس كصورة منعكسة في الذهن.. اي خلل
بين ثقافة الكاتب في قارئه يؤدي الى ضعف المتابعة القرائية، حيث يموت المُسردْ قبل
ان يستقبله القاريء، وهذا الموت يصبح نهاية عصر الرواية.
3.
العلاقات: تضادها وتوافقها يشعل صراع واضح حول فكرة
ما.. تحمل فلسفة ما.. هي ما يجعل عمقها جدلاً له فائدة وتعطي للسارد مشروعية
مناقشة اية فكرة يريد طرحها عبر مسرده.
4.
العمق في التاريخ يجب ان يحضر له بصورة معرفية ويجب ان تتبنى
منهجاً في السجال.
5.
الحيادية.. ربما تعني عدم التعالي على ثقافة القارئ
لن تلغى ثقافته ابداً، يتطلب ذلك اعترافا من الكاتب بمشروعية واحترام ما يحمل..
ذلك الالتزام بالتوازن حول قضايا الأنسان المهموم بالانقسام، والهوية الضائعة فكل
انسان قضية تفتقر للكمال، وكل قضية لن تكون على حساب الاخرى.
6.
السرد التحليلي الكاشف لأغوار النفس، يجتذب، يلمع، يثير.. كما
كان يفعل العبقري "دستويفسكي"، اذا يعمق سرده بما يراه عميقاً في اغوار
نفس ابطاله..
·
متى يكون حضور السارد المدهش/ الكاشف/
العارف بما سبق وما كان يجرى وراء الكواليس؟
وكيف تمكن من كشف كل ذلك، وعرف بكل
ما خفي علينا ؟
أم انها حوادث سابقة حدثت، وسوف
تحدث في مكانه؟
او نبوءة المتنبئ بما سوف يحدث؟
المضيء القائد..؟؟؟
أخيرا: تحضرني مقولة جوليا كريستيفا "المصابون
بالسوداوية والكآبة يعيشون حالة من الحداد المستمر على الأم[4]"..
لعلني بهذه المقولة الكاشفة عن يتباكى به اصحاب ربابة الوتر الواحد، اكون مؤيدا لها؛
ومختتماً - "ان الكتابة ليست حالة مرضية، ولكن المصاب هو من يحول تجربته
الكتابية الى حالة مرض".
8/6/2015
No comments:
Post a Comment