عراقي يكتب القصة والرواية ويتحسس الادب الجاد
محمد الأحمد
محمد الأحمد
محمد الأحمد
كاتب عراقي
كاتب عراقي
Search This Blog
Friday, March 7, 2014
Tuesday, March 4, 2014
The Maze of the last one
مَتاهات يهوديّ (بَعْقوبَة) الأخير
قراءة في رواية (مَتَاهَةُ أَخِيْرِهِم)
للكاتب محمد الأحمد
د.فاضل عبود التميمي
ممّا
لا شك فيه أنّ الرواية العراقيّة بعد العام (2003م) أخذت منحى جديداً ظهرت من
خلاله وهي تعمل على تمثيل قضايا كانت حتى الأمس القريب خطاً أحمر لا يمكن تجاوزه، أو
الوقوف عنده مثل: الحديث عن الأقليّات، والإثنيات، والهويات الفرعيّة، والمسكوت
عنه تاريخاً وجغرافية، بمعنى أنّها تستعيد اليوم بوساطة التمثيل السردي أوضاعاً ثقافيّة مرّت عليها أنامل
التاريخ، وبقيت لصيقة النسيان، فضلاً عن قضايا فكريّة ذات أطر إجتماعيّة، أو اقتصاديّة
لتضعها أمام تخييل المتلقي تاركة له حريّة الانسجام معها، أو رفضها فهي في النهاية
ليست سوى أفكار مخيّلة، وإنْ كانت تستند إلى مصادر معلومة الزمان، والمكان .
رواية (مَتَاهَةُ أَخِيْرِهِم) للكاتب محمد الأحمد الصادرة عن المطبعة المركزيّة لجامعة ديالى
2013م حاولت الاقتراب من مدينة (بَعْقوبَة)([1])،لاسيّما
من زمانها الحديث ممثلاً بوجود الطائفة اليهوديّة فيها، لتضع ذلك (الوجود) تحت
مجهر التكبير السردي الذي أتاح للمؤلف رؤية سبرت أغوار العلاقات الإنسانيّة التي
ربطت يهود (بَعْقوبَة) بمن سكن المدينة، وصار جزءاً من نسيجها
الإقتصادي، والاجتماعي.
تنفتح الرواية على (عتبات) نصيّة ترافق المتلقي
لتكون مفاتيح إجرائيّة يستعين بها للكشف عن الاستراتيجيّة التي يمكن أن يسير عليها
النص لغرض إطلاقه، أو تأويله ،فهي عناصر ضروريّة لفكّ مغاليق الدلالة ،وإيضاح
الخارج قصد إضاءة الداخل([2])،
فالرواية اليوم تُقرأ من خارج المتن لكي يكون الدخول إليها ميسورا بعد اجتياز
سلسلة العتبات الأولى التي يكمن خلفها فضاءٌ مفعمٌ بالاستعارات، والتمثيلات التي
تجد لها صدى في تخييل المتلقي.
أولى العتبات: الغلاف: وضع المؤلف صورة لغلاف
الرواية كان المصّور الفنان عبد الله الخزرجي قد التقطها لمعبد يهوديّ في مدينة بَعْقوبَة التي تجري وقائع
الأحداث فيها([3])، وهي صورة لا يمكن فكّ ارتباطها الدلالي عن
مضمون الرواية، فهي في تركيبتها الواضحة تثير في المتلقي مشاعر مختلفة ،لتحفّزها
نحو نقد الحاضر كاشفة أنّ المعبد اليوم
طلل يحيل على ماض مجيد.
وثانية
العتبات (العنوان:مَتَاهَةُ
أَخِيْرِهِم) الذي يتشكّل من بنيتين :الأولى تركيبيّة، فالمتاهة خبر لمبتدأ محذوف
تقديره (هذه)، وهو مضاف إلى آخرهم ليعرّف بها، والأخرى: دلاليّة تشير إلى المتاهة
التي عاشها آخر اليهود العراقيين في مدينة بَعْقوبَة الذي كان قد سُجّل في الوثائق اليهوديّة على
أنّه(مكابيوس)، وهو من أسماء التوراة المعروفة، لكنّ أباه سمّاه في الوثائق الرسميّة:
(محمّدا) تيمّنا على ما تقول الرواية بشخصيّة جدليّة غيّرت مسيرة التاريخ، ولكي
يحميه من الغدر الذي قد يلحق به من أهل والدته؛ لأن أباه لم يكن قد تزوّجها بشكل
طبيعي، وهذه (متاهته) الأولى.
حكاية(محمد)،أو(مكابيوس) كما
تخبرنا الرواية: ((حكاية حقيقيّة ليست ملفقة قالت نفسها بكل جديّة... يهودا ترك ابنه
الوحيد منذ اليوم الأول لولادته في عهدة أحد أصدقائه المخلصين جداً.. تحت ظروف
قاهرة جعلته يقبل بالحل الذي كان يظنّه مؤقتاً))ص131، وهذا إنْ كان صحيحا- أظنه كذلك- يحمّل الروائي
عبئاً ثقيلاً من المسؤوليّة الأخلاقيّة والفنيّة ((فاستعادة تاريخ حياة تخضع في
الغالب لشروط زمن الاستعادة، ووعي المستعيد ووجهة نظره، ومستلزمات التعبير عن
ذلك أكثر ممّا تخضع لشروط المسار التاريخي
الحقيقي لتلك الحياة ،ذلك أنّنا في الأدب لا نكون أبدا بإزاء أحداث، أو وقائع خام،
وإنّما بإزاء أحداث تقدّم لنا على نحو معين))([4])،
وهذا يعني أنّ نواة الرواية وإن كانت ابنة المكان، والزمان إلا أنها في ظروف
البناء السردي تحتاج إلى كثير من العناية الفنيّة التي تستعين بالمنجز المتداول
لأدبيّات السرد لاسيّما أدبيّات ما بعد الحداثة، فضلاً عن حاجتها إلى مخيّلة مبدعة
تعمل على الإقناع، والإمتاع.
كان والد (محمد)، أو(مكابيوس) قد هاجر إلى
إسرائيل مع من هاجر من يهود (بَعْقوبَة) ليتركه وديعة في (متاهة) أخرى عند عائلة
أحد المخلصين له من المسلمين، كبر الفتى، والتحق بالخدمة العسكريّة ليسجّل مفقوداً
في الحرب العراقيّة الإيرانيّة، وهذه(متاهته) الثالثة، غير أنّ الرواية تخبرنا أنّ
الرجل عاش (متاهته) الرابعة حين توضّح للقارئ أنّه لم يكن مفقود حرب إنّما كان قد
هرب إلى الجانب الآخر، ثمّ تبيّن من رسالة وصلت إلى السارد أنّه عاش(متاهة) أخرى طويلة أخذت به إلى أفغانستان، ومنها إلى روسيا ثم
استطاع أن ينفذ بجلده إلى حيث يقيم والده الحقيقي (يهودا) في (إسرائيل)، فكانت (متاهته)
الأخيرة... هل هي حقّاً الأخيرة؟.
ثالثة
العتبات (التصدير) الذي يكتسب أهميّة تتمثل في عدّه الجملة الأولى لمحكي ما ،فهو
مدخل لفضاء لساني تامّ الدلالة([5])،حاول
من خلاله (المؤلف) أن يجعله منفتحا على أربعة خطابات مختلفة كلّ خطاب يختصر (عتبة)
كاملة سَمَّيتُ الأولى: عتبة الاعتذار، أو التمني، أو طلب الغفران، وهي عتبة نصّ
يمكن تأويلها ، أو الكشف عن إيهامها المتعمّد فالمؤلف يتمنى فيها من متلقيه أن
يغفر له كلّ الخيال الذي استعمله في كتابة الرواية، وأن لا يلومه على عدم التشابه،
أو التطابق بين شخصيّات الرواية، والواقع حيث لا تقارن الحصاة بأختها.
وعندي أنّ في هذه العتبة يكمن البعد التأويلي للميثاق الروائي الذي دوّنه
تخيّل المؤلف ليتلقاه تخييل المتلقي، فالمؤلف في هذه العتبة مارس أعلى درجات الإيهام
في وجه المتلقي بقصد تحجيم درجة تأويله، وتثبيتها عند درجة القبول بحقيقة ما فيه، أما
الخيال فهو ضرورة كبرى في بناء الرواية، ومن دونه يتحول النصّ إلى شيء يقبع خارج
الفن، أمّا عدم التشابه، أو التطابق فهو إيهام آخر؛ لأن الرواية تتضمن تشابهاً، وتطابقاً
بين ما فيها من حوادث وسرد، وما هو خارج متنها ،فإيهام المؤلف –هنا- يشير إلى مقدار
(المفارقة) التي تفصل بين قصديّة المؤلف، واستقبال القارئ.
وسَمّيتُ الثانية
:عتبة التاريخ التي حاول المؤلف فيها أن يثبت أنّ التاريخ ليس محكيّا واحداً فكلّ أمّة
تحكي حكايتها على وفق ما يناسب غرورها، وهي عتبة تأويل أخرى تفضي إلى تقرير أنّ التاريخ لا يمكن أن يكون وجهة نظر
واحدة، وأنّ ما مدوّن منه يعبّر بالضرورة عن وجهة نظر المنتصر المغرور، وأنّ ما مُشَفّه
منه يشتمل على حقائق كبرى مغيّبة الحضور.
وسمّيتُ
الثالثة (عتبة الكذب) التي أراد بها المؤلف أن يقول إنّ الكذب على الآخرين ليس
خداعاً لهم، إنّما هو خداع للذات الكاذبة؛ لأنّ الكذب يبقى كذباً وإنْ تعدّدت صوره
مع أنّ الحقيقة واحدة لا تقبل التغيير.
أمّا
رابعة العتبات فسميتها (عتبة العاطفة) التي خاطب فيها المؤلف السارد على بعد
المسافة بينهما، أو قربها فالعاطفة عند المؤلف تفيد كثيراً في الفلسفة، كما أنّ
الفلسفة تفيد كثيراً في تشغيل العاطفة، وهما محور تحرّر المؤلف المكاني.
التراكم التصديري للعتبات لا تنتهي مقاصده عند الصفحة الرابعة، والخامسة من
الرواية فهو يسعى إلى تفجير الأفكار التي تَرْتَدُّ إلى مضمون الرواية، ولهذا عمد المؤلف
إلى وضع عتبات أخرى في مدخل كلّ فصل كلّ
عتبة تحيل على دلالة تخصّ مضمون الفصل، وهي مستعارة من ديوان المتنبي سوى عتبة
القسم الثالث، وهكذا يجد المتلقي أنّ عتبات التصدير في الرواية تشكّل مع بعضها
شبكة من العلاقات الدلاليّة التي تفضي إلى تفسير مضمون الرواية، وتأويله.
والرواية من حيث البنية تنفتح على أربعة (أقسام) وإن كان المؤلف لم ينصّ
على تسميتها أقساما كلّ قسم فيها ينقسم بدوره على عدد من التفريعات (المنجّمة) غير
متساوية العدد، القسم الأول من الرواية (متاهة الدخول) وقد عيّن له المؤلف وحدة
زمنيّة تاريخية:(1966- 1972م)، تشير إلى سنوات دخول مكابيوس إلى الدراسة الابتدائيّة
،ووضع له عتبة تقديم هي قول للمتنبي، ثم وصفاً مقتطعاً من الرواية لمكتبة يهودا
ناجي، ليجعل الفصل في خمسة أقسام تنقسم
بدورها على عدد من التفريعات.
أمّا
القسم الثاني من الرواية فسماه(مكابيوس) ووحدته الزمنيّة التاريخيّة (1973-
1978م)، التي تشير إلى سنوات دخول مكابيوس الدراسة الثانويّة، وعتبته بيتٌ للمتنبي أيضاً ، ثم جعله يبدأ من التسلسل (6) لينتهي بالتسلسل (18)، وكلّ
تسلسل فيه ينقسم بدوره على عدد من التفريعات.
وكان القسم الثالث (باب الخروج) ودلالته الوحدة التاريخيّة 1979-1982التي تشير إلى السنة التي بدأ فيها
مكابيوس يفكّر بالخروج من العراق، وعتبة صوفيّة الرؤية، تبدأ تقسيماته من الرقم(19)،أمّا
القسم الرابع من الرواية ،أي الأخير فعنوانه(السارد التالي) أي الأخير، وجعله المؤلف
بعتبة تصدير هي بيت للمتنبي أيضاً، وهذا القسم يتألف من واحد وعشرين تفريعاً صغيراً
كُتب على لسان سارد مغاير للسارد الأول لعلّه أخ مكابيوس (المسلم)، ينتهي هذا
القسم بنصّ الرسالة التي بعثها مكابيوس: أي محمد إلى العائلة التي عاش فيها ، وأخبرها
بوصوله إلى إسرائيل، وهو أصغر أقسام
الرواية لكنّه كان مكثّف الدلالة يحيل على تأويلات يحتملها النص، ويعلن عن أفكارها
السياق .
والرواية من حيث البنية تنتمي إلى النصوص المتعدّدة الرواة تلك التي
يتنازع السرد فيها أكثر من سارد، لكنّ السرد فيها يلتقي عند بؤرة واحدة هي (بَعْقوبَة)
التي احتضنت أجيالاً حديثة تعاقبت على العيش فيها لتشكّل مجتمعاً متجانس الثقافة ،
والرغبات.
ورواية (مَتَاهَةُ أَخِيْرِهِم)
بوصفها نصّاً أدبيّاً
تخيّليّاً استقى بعض تشكّلاته النصيّة من التاريخ لكنّه لم يستسلم له استسلاماً
تامّاً، فقد داعبت أطناب الخيال أفكار المؤلف وهو ينفتح على ثلاث دلالات سرديّة
واضحة المعالم هي:
أ- الميتا سرد:
الذي من خلاله استطاع المؤلف أن يجتلب
مجموعة من التشكيلات السرديّة التي لها مواقع خارج نص الرواية لكنّه بمهارته
استطاع أن يدخلها إلى نصّ الرواية لتكون جزءاً من بنيتها الكليّة ،والميتا سرد: ((يعتبر
السرد جزءاً من موضوعه وعلى وجه التحديد سرد يشير إلى العناصر التي تؤلفه، وتقوم
بتوصيله))([6])
وهو في رواية (مَتَاهَةُ أَخِيْرِهِم) يتمثّل في:
1-
سيرة المؤلف:
دخلت بعض معالم السيرة الشخصيّة للمؤلف نصّ
الرواية ،عبر تفوهاته وهو يتحدث عن أيام
دراسته في مدينة بَعْقوبَة، أو عن محطّة القطار، أو عن عمله في المطعم
الصغير، أو عن مشاهداته لمحطة الوقود جوار منزله ،أو عن سلسلة الأعمال البلديّة
التي رافقت تطوير مجرى نهر خريسان، أو عن علاقته المبكّرة بالمكتبة المركزيّة في
المدينة ، كلّ تلك النتف السيريّة استعارها المؤلف من سيرته ليشكّل بها، وبغيرها
مبنى الرواية فاتحاً لنفسه باب الدخول إليها لكي يصوغ إطار شخصيّة على الرغم من
واقعيّتها إلا أنها دخلت باب التخيّل لتكون جزءاً من سيرة (محمد: مكابيوس)، فضلاً
عن أنّه ضمّن الرواية نبذاً من أمنياته المعروفة في أن يصبح روائيّاً صانعاً
للأحداث على الورق، فقد حاول أن يقتحم نصّ الرواية ليمثّل لنا معاناته وهو يبحر في
عالم السرد ،بمعنى أنّ المؤلف دخل الرواية ليكون دالاً على سرد آخر هو المدلول
عليه كما أفهم من عبارة الناقد عباس عبد جاسم([7]).
2- المخطوطات:
وتظهر معالم
ما وراء سرد الرواية حين يستعين المؤلف بأكثر من مخطوطة مفترضة لتسهم في تنوير
معالم الرواية، وتقريبها إلى ذهن المتلقي ،وهي مخطوطات تشتمل على مسرود يوازي سرد
الرواية نفسها ، وهي ممّا يقع في بناء الميتا سرد حين يفكّر فيها السارد، ويحاول فكّ رموزها، ويحكم عليها في
اللحظة التي يروي فيها الاحداث([8])
من تلك
المخطوطات: دفتر(ملخّصات) كان السارد(محمد) يدوّن فيه معلومات عن الكتب التي قرأها في مكتبة
المدينة المركزية ، وفي بعض صفحاته ابتكر حواراً متخيّلاً مع (هيرودوتس)، وحين أحسّ
أنّ الذاكرة بدأت تتسطّح حاول أن يجمع فيه
معلومات عن (مكابيوس) من ذاكرة الذين كانوا يعرفونه ، لم يهمل كلمة إلا دوّنها
مفهرساً الأخبار بحسب تاريخ تدوينها بدءاً من عودة حسقيال إلى بَعْقوبَة متنكراً للوصول إلى حقيقة شخصيّة مكابيوس
ص129،128،وانتهاء بكلّ شاردة تتحدّث عن مجتمع المدينة.
هذا الدفتر
(المخطوط) فُقد من السارد في ظلّ ظروف غامضة كلّ الذي عرفه أنّه رأى يوماً نتفاً
من غلافه عالقة في قعر سلّة المهملات ،فتيقن أنّه لم يُفقد، وأنّ أحداً قد أتلفه
متعمّداً ص143.
ضياع الدفتر
دفع محمداً لأن يبتكر مخطوطاً جديداً أخضعه لنظام سريّ طمعاً في الحفاظ على سريّة
ما فيه تمثل في أنّه وضع أوراقا بيضاء في الآلة الكاتبة وبدأ بالرقن بدون شريط
طباعي عندها لا تظهر الكلمات لكنّ صورتها
تحفر على الورق فيتمكن من قراءتها بتظليل الورق بقلم الرصاص، لتظهر على صفحاتها
ملاحظاته الجديدة عن اللغز (مكابيوس) الذي مثّل له تحدياً، وعناداً ،ونزوة تؤرقه ص142.
وعثر محمد على
أوراق وجدها في مكان سري في بيت يهودا،
وهي أوراق مرقونة على الآلة الكاتبة أيضاً كان يهودا قد كتبها عن سيرة (مكابيوس)، لم
يتمكن حسقيال من أخذها وهو يفتح المكان السري من المكتبة بسبب ما حصل له من صدمة
وهو يرى الدار وقد نهبت ص257.
وهناك مجموعة من الأوراق التي تشكّل حجم ملزمة
وجدها محمد تحت سرير قديم لفراش متهرئ في مرآب المدينة الذي هُدّم، هي بالتأكيد
الأوراق التي حصل عليها عباس زرزور وكانت مخفيّة في مكان سريّ طلبها حسقيال لكنّه
لم يتمكّن من أخذها كان يهودا قد رقنها وفيها معلومات عن (مكابيوس) ص302.
ويبدو أنّ الأوراق
المكتوبة بحفر الحروف الخاصّة بالآلة الكاتبة من دون شريط هي التي دوّنها السارد محمد عن مشاهداته(البَعْقوبَيّة)، وقد احتفظت بها (والدته)، وفيها توثيق
دقيق لسير الناس في المدينة لتكون فصولاً من رواية كان يريد نشرها، لكنّ السارد الآخر(خليل) شقيق (محمد) استحوذ
عليها طمعاً في نشرها رواية له لكنّه أحجم
في نهاية الأمر لاعتقاده أنّ الاطلاع على نماذج روائيّة عالميّة ،ومحليّة كفيل بأن
يصنع منه روائيّاً جديداً، خليل في النهاية لم يكتب روايته الخاصة إنّما أخرج
رواية من صناعة إنسان آخر أعني(محمد) الباحث عن نفسه أي (مكابيوس)، فالروائي
في ما وراء السرد الذي اعتمده كان قد أخبرنا عن الرواية، وعن إشكاليّة بنائها التي
دلتنا((على كيفية نشوء –الرواية- ونموها واكتمالها ثم اندحارها الحتمي من خلال
نهاية منتقاة وفق برمجة دلالية واعية ))([9]).
والمخطوطة
لعبة سرديّة موازية للنص الروائي كان عددٌ من الروائيين العراقيين قد أدخلها في
نصوصهم بدءاً من أحمد خلف ،ومروراً بعبد الخالق الركابي، وجاسم عاصي ،وحميد
المختار ونضال القاضي، وأخرين الهدف منها ايجاد سرد موثّق ضمن حكايات , أو أخبار
تتوازى في مضمونها السردي مع محمول الرواية نفسها لتكون (المخطوطة) في النهاية
سلطة تخفي في فاعليها حدود ما هو واقعي، ومتخيّل حرصاً على مشابهة الحقيقة والواقع
طالما لم يتمكن الروائي من مطابقتهما([10])،فضلا
عن أنّها-المخطوطة- تحفيز سرديّ يدفع بالسارد لكي يستثمر رؤى جديدة في السرد.
لكنّ المخطوطة،
أو المخطوطات في (مَتَاهَةُ أَخِيْرِهِم) تتجاوز معاونة السارد
على السرد، وتحفيز رؤاه السرديّة لتكون مركز استمداد سردي يجمع اطراف السرد فهي
ببساطة تتضمّن محمولاً سرديّاً منظّماً عن الشخصيّة المركزيّة في الرواية أعني: (مكابيوس)، وهذا يعني أن السرد لا يمكن أن يتحقق إلا
بالرجوع إلى متونها، والاحتفاء بما فيها من رؤى.
ب- صورة اليهودي:
رسمت الرواية
صورة لليهودي (البَعْقوبَي) بأبعاد تختلف عن الصورة المتداولة لليهودي (الشايلوكي)
الذي يزن دَيْنَهُ بلحم المدين، وإذ لا أنكر أنّ صورة اليهودي العراقي وصلت إلى الأجيال
المعاصرة وهي لا تخلو من إنسانيّة واضحة لكنّها وصلت أيضاً مشفوعة بهمّ جَمْعِ
المال، وكَنْزِه بشتى الوسائل والصور.
صورة اليهودي
في الرواية تمتاز بقدرتها على إضاءة الداخل اليهودي الذي ظلّ قلقاً ومسكوناً بهاجس
المؤامرة، والخوف من (الجار) على الرغم من مئات السنين التي جمعت الأطراف كلّها في
مكان واحد وزمان، لنأخذ وصف البيت الذي سكنته إحدى العائلات اليهوديّة في بَعْقوبَة أي بيت يهودا: ((بيت بطابقين فيه نافذة
واحدة تشرف على الباب الرئيس ومنها يتفحصون الطارق ...))ص11.
تتّصف هذه
العائلة(عائلة يهودا) بصفات قلّ ما نجدها عند (الآخر)، فهم (( لا يمنعون عن أي
محتاج حاجة، ولا يردّون سائلاً....خاصّة في أمور الطبّ ..يهبون الدواء لكلّ مريض أو
مصاب))ص11، وعندهم يجد كلّ محتاج جواباً عن سؤاله ، بلا مقابل، و لا يقبلون الهديّة
بعد الشفاء ص29.
وحين تعرّضت دار
(موشي) إلى النهب الذي حدث في العام 1941هجرته العائلة، ولكي لا يصبح وكراً للآثمين، والمارقين، قبلت
العائلة أن يسكنه (كاظم الأعرج) بلا أجر شرط أن يتزوج ص50.
ويجهد السارد في سرده لكي يثبت أنّ العوائل في (بَعْقوبَة) كانت
تعيش في أجواء متقاربة بلا فواصل اقتصاديّة، أو نفسيّة حتى (أقدارها) كانت تنزل من
السماء سواء على الرؤوس فالموت يزور المسلم، واليهودي في آن واحد: (الصديقان جدّك المسلم
(علوان دندي)، وناجي أي (ناجي يعقوب) توفيا في يوم واحد) ص 59.
وحسقيال الذي
يرتبط بعلاقة عمل بوالد السارد يلاطف السارد في طفولته البعيدة ، وينحني مقبلاً
إياه بلطف واعداً بهدية النجاح ص99، فضلاً عن أنّ (يهودا) نفسه لا يتوانى عن عزل جزء
من الحديقة تزيد على العشرة أمتار عرضاً وعشرين متراً عمقاً ليسجلها في دائرة
التسجيل العقاري باسم جاره المسلم ص105.
وحين غادر (يهودا) إلى بغداد أخبر جاره القديم علوان دندي بعنوانه
الجديد آملاً منه أن لا يتأخر في طلب أيّ شيء، فالمال بحسب الجار اليهودي: (مال
الله) ص106، وكانت عائلة (يهودا) تستورد الطحين أيام العوز، والحصار لتبيعه بالسعر
نفسه من دون أن تحتكر شيئاً منه، رابحة من بيع الأكياس فقط ص118.
وتتّضح صورة أخرى
لليهودي في الرواية هي صورة عزيز شلومو الطالب النابغ في المدرسة المتوسطة الذي
كان نظيفاً، وأنيقاً لكنّه كان منطوياً،
وخائفاً وكان يحفظ القرآن الكريم ، ويعرف التلاوة، والتفسير، وحصل في امتحان
البكلوريا على 100% بوصفه الأوّل على مدارس العراق... هذه الصورة ذات الدلالة الواضحة
تقابلها صورة أخرى يتوسطها أحد زملاء شلومو الذي رفض الجلوس مكانه بحجة أنّه مكان
(نجس)، وممّا زاد من قتامة الصورة أنّ المدرّس لم يعلق على خطاب الطالب فما كان من
السارد إلا أن جلس مكان شلومو ليظلّ المدرس على صمته، ثم تحضر المفاجئة في الاستراحة
حين قال أحد الطلبة للسارد: (يجب أن تغتسل جيّدا قبل أن تتناول طعامك) ص155، وكان هذا
بأظفار طويلة متّسخة، ووجه مغبرّ ، وفي عينيه قذى!.
ت-السينما:
كانت السينما بوصفها نافذة ثقافيّة جديدة قد أطلّت
على مدينة (بَعْقوبَة) لتعمل على التماس مع النمط السائد من
ثقافتها المتداولة يوم ذاك، كانت بَعْقوبَة تعيش في ظل اقتصاد قرية كبيرة افتتحت فيها داران
للسينما: الأولى (سينما يهودا) 1949م التي تحولت فيما بعد إلى (سينما دَيالى)، التي
تحضر في (مَتَاهَةُ أَخِيْرِهِم) بقوّة انتماء سرديّ يحفر دلالته في متن
الرواية، والأخرى سينما (الزيدي) التي تحولت إلى (سينما النصر).
استمدت سينما
(دَيالى) في الرواية وجودها السردي من جملة أحداث رواها السارد بدقّة متناهية
لتكون شواهد على عصر مضى تتعلّق في: مؤسّسها البَعْقوبَي يهودا، وجريمة قتل العم (موشيه)، وأبرز
الأفلام التي عرضت على شاشتها البيضاء، وآليات تشغيل أجهزتها الفنيّة، وتقاليد
دخول العوائل إليها، ووسائل الحصول على الأفلام الجديدة، ثم الخراب الذي لحق بها لتكون
أثراً بعد عين يجاور أطلالاً.
صورة (سينما دَيالى)
في الرواية متعدّدة الإيحاءات، والمرجعيّات تجمع ما هو واقعي نابض بالحركة بما هو
تخيّلي ناتج عن عمل الخيال وهو يتقصى دلالات القصّ، و السينما في النتيجة سرد يتمتّع
بما هو واقعيّ: مرئيّ :حسيّ يتجاور مع ما هو خيالي غير مرئيّ، أو مجرّد يتحول فيما
بعد إلى جماليّات ذات أسلوب تعبيري أخّاذ همّها المتعة، وتحريك الذهن، وتحقيق
المشاهد الطريفة بلغة اتصال حقيقيّة ، ولهذا مارست السينما- يوم ذاك - تأثيرها
الواضح في ثقافة المدينة.
واستعانت
الرواية في مسعاها السردي المنظّم بصور عدد من مهمشي بَعْقوبَة الذين كانوا جزءاً من حياتها الإعتياديّة،
وقد تلقّفتهم مخيّلة المؤلف لتعيد زجّهم في
أحداثها بوصفهم نماذج من خارج إطارها وهم: (رزوقي أبو الكش)،و(حسن أرمني) ،و(فؤاد
طرزينة)، و(كاكه نام دار)، و(عناد الطويل)، و(عزوز)، و (عباس زرزور) الذي عمل في
مرآب المدينة مع سعدون دلّال، وفي سينما دَيالى، وارتضى لنفسه أن ينام على أريكة
من أرائك مقهى (مناتي) الشهيرة زمنا ليتحوّل إلى إحدى الحدائق، فضلاً عن: الحوذي(عباس
ياسة).
فضيلة الرواية
(هنا) أنّها نقلت المهمّشين من هامش المدينة الذي كان مستقراّ لهم لتزجّ بهم في
مركز تخيّل السارد المنقول إلى مركز تخييل المتلقي، فهؤلاء جميعا كانوا بلا إرادات
حياتيّة، أو تطلعات اجتماعيّة لكن الرواية استطاعت أن تنتشلهم من مستنقع الأحداث
لتجعل من أسمائهم ، وسيرهم علامات دالّة في سرد ينتمي إلى حياة مدينة لا تريد أن
تموت.
وبعد: لقد أحضر لنا مؤلف رواية (مَتَاهَةُ
أَخِيْرِهِم) ما هو غائب الآن عن سلطة أعيننا ليمثّل لنا بحريّة السرد جانباً مشرقاً من
حياة نحن بأمس الحاجة إلى استعادتها الآن، والمؤلف في روايته هذه نجح في استحضار زمان، ومكان قلّما تنبّه على أهميّتهما الأدباء.
[1]- مدينة عراقيّة آراميّة الاسم تقع
شمال شرق بغداد ذكرها ياقوت الحموي في معجم البلدان: وللمزيد عنها ينظر: من تاريخ
بعقوبا وما حولها: طه الدليمي :مطبعة جامعة ديالى:2013.
[4] - السيرة الروائية
إشكالية النوع والتهجين السردي: د. عبد الله ابراهيم : مجلة مزوى:ع:18:1998:14.
[6] - المصطلح السردي
(معجم مصطلحات): جيرالد برنس :ترجمة عابد خازن دار: مراجعة محمد بريري :2003: 130.
[9] - السرد الروائي وتجربة المعنى: سعيد بن
كراد:المغرب:257.
Subscribe to:
Posts (Atom)