محمد الأحمد

محمد الأحمد
كاتب عراقي

Search This Blog

Thursday, September 11, 2008

خمسٌ مقامات في السياسة والجوع


خمسٌ مقامات في السياسة والجوع
· مقامة (1)

حدثوا إن ناحلا الملقب (هايشويه) الخارق الغباء، يسترسل بحلمه بارما شاربيه دون أن يهش الذباب المتكالب على وجهه… ذات مساء مغبر، ومشبع بالدبق والرطوبة. إذ أخذتة نشوته وحلقته في خيال لا يمت إلى واقع جوعه، وجوع حمارته المطيعة، فقال لها بعنجهية: - سأجعل لك جناحين تطيرين بهما فوق الغيوم العالية!. هزت الحمارة ذيلها بلا مبالاة ثم اخذت تحك جلدتها بشجرة سبق لصاحبها أن أوقد نارا تحتها، فتساقطت أوراقها و بقيت تحدث صريرا كلما حركتها و بدت كما لو لم تسمع ما يقوله مغتلما بالزهو… - سنطير فوق مخازن الحبوب وندخلها من كووها العالية؟!. بقي الرجل مسترسلا والحمارة أحوج لان ينزع عنها الخرج الملي بالريش الذي سبب لظهرها حكة مؤلمة… ظننتها قرادة مسينة قد لصقت تحت الحمل و بقيت تدس خرطومها الطويل الحاد كابرة موخزة إلى تحت الجلد بحثا عن شريان يندفع به الدم النقي… ذلك كل ما حدثوا به عن الرجل، و حمارته. أما عن أولاده الأربعة و حرمه المصون، فأننا في خبر سنفرد عنهم فصلا آخر.
· مقامة (2)

انتصرت علينا الحرب، ياصاحبي الذي أعرف؛ وما في العمر متسع للفرح، فلا اصدقاء من جلينا اوصو بالحفاظ على ما تبقي فينا، من مثل. لا ساسة خلص... لان الرصاص نفد، ونفذ فينا، الألم الممض، الإنتظار المقيت.. فما في العالم من أسلحة الا واثبتت اجسادنا بانها تتحملها حدّ الموت، وما في العالم من خطابات الا واثبت اسماعنا بانها تتحملها الى حدّ القرف، يدفعوننا لغاية في نفس السائس المختل بكراهية من يغتال اخيه.. وصارت الجثث بيننا وفوقنا، وكأن السماء امطرت شظايا جثث طازجة توهب نفسها للحرب التي يعرفون باننا وقودها الدائمة، لم نكتشف مبكرين ذلك، فما في العالم من دموع الا وذرفناها بافتقادِ احبابنا الغافلين في بيوتهم النيئة.. لكن الحرب لم تمت عندما متنا، ولم تنته بعدما انتهينا.. انتهت الحرب وخلفت ابنائها منا؛ وحوشاً لم يشبعوا من اشراف الابوة.. انتهت الحرب،، وخلفت اساطيرها العمياء لتذبح الخلية قرينتها الاخرى في الجسد الواحد.. حيث الشوارع النظيفة لم نشاهدها يوما واحدا نظيفة، ولا معنى ان نعرف ذلك؛ فقائد الحرب، ممثل الرب.. كان يشرف على الموت بنفسه، وكان الموت يتحرك بامرته فيفرش اجنحته الرؤومة فوقنا؛ انتصرت علينا الحرب وخلفتنا تهاليل موت متواصل بالموت حيث لا فرح إكتمل باجازة او هروب؛ تركنا الفرح عاطلا، وبات الامل باطلا.. اذ تركنا الموت ساريا فينا الى اشعار آخر، لا يبهرنا بالموت سوى الموت نفسه، ولا ينقذنا من الموت الا شبح الموت نفسه. انتهت الحرب و نحن الميتون، المتعففون به؛ ننشدكم خلاصنا من الموت الذي لا مناص منه الا به، فلا حولة ولا قوة الا بالموت العظيم: انتهت الحرب وما انتهينا من الانتصارات المتعاقبة بالسن الساسة فوحدهم من يحول الهزيمة الى نصر من هشيم، والهشيم الى رماد، والرماد الى تماثيل منتصبة بلا روح، سوف تدفع بها الريح الى التفتت، ولكنها الآن؛ شامخة بنصرها الشفوي؛ انتصرت علينا الحرب القائمة بين الشرق والغرب وخلفت مواطنا مدحورا: بين النار ودخانها، بين العدو والصديق؛ برغم ان تموت برصاصة غدر، او بفريق موت ليعيدوك الى الموت بحجة انك لست ميت؛ رغم المسدسات الرعناء، رغم كابوس (الدريل)، ورغم شحة الماء والكهرباء، والإنسانية.. فما لدي سوى ان اقول يا صاحبي الذي اعرف: الاسوأ ما في ايامنا هذه هي عندي اجمل من عيد في عهد (فلان).. وان انتصرت علينا الحرب؛ لانها بداية مفترضة قد ننتهي بها إلى آمالنا.
· مقامة (3)

عن ابي فلان الفلاني سمعته يحدث عاطلين عن العمل في مقهى المدينة الخائبة، انه قال: (تعجبت من جوابه المتشابه، قلت لصاحبي… ماذا يكون هذا السوق بحيث يحوى كل شيء… كلما احتاجه سألقاه في سوق الجمعة، فحددنا موعداً في اليوم التالي، وكان جمعة. و بعد أن وصلنا إلى السوق تلفتّ فلم أجد أثراً لصاحبي في المكان المقصود… بحثت عنه في كل مكان قرب السوق، فلم ألقه… فكان علىّ أن ادخل السوق وحدي… في البدء لم أتعجب عندما رأيت ساعة جدارية تشبه التي أهداني إياها والدي في عيد زواجي الأول، ولما تقدمت اكثر إلى داخل السوق بين الناس، فكان من النادر جداً أن لا ألا مس أحداً أو اصطدم به… وقفت أمام جهاز تلفزيون، وكنت فيما مضى قد وضعت عليه صورة لا صقة أعجبتني دلالتها. حدقت فيها، وقلت من الجائز أن تكون مصادفة… العلامة ذاتها، والزاوية ذاتها. ولدي بائع آخر وجدت ثلاجة بحجم ثلاجتي عروة بابها مكسورة أيضاً… تلك الحادثة حصلت عندما انتقلت إلى بيت آخر قبل أكثر من ثلاث سنوات. تقدمت أكثر… رأيت بائعاً آخر يعرض مجوعة من صحون الخزف الصيني وكان بينها صحن يحمل صورة ابني الصغير، أتذكر أني أزحته جانباً صباح هذا اليوم، و تناولت من قربه علبة دخان سبق أن سجلت عليها رقم هاتف أحد أصدقائي الذين كانوا معي في الحرب، فزعت عندما رأيت العلبة ذاتها مع مجموعة علب أخرى تحت يد بائع آخر. فكرت أن أعود سريعاً إلى البيت، وأتفقد أغراضي التي رأيت أشباهها في السوق. ضاقت بي الخطوة بعد أن تعثرت كثيراً بالناس المزدحمين وصار من الصعب علي أن اختار الخطوة التي أريد. تلكأت بعدما تقتمت في رأسي الأفكار السوداوية، ولم أعرف من أين دخلت وكيف سأخرج؟ صارت الممرات أمامي بشعاب متفرقة و مسالك متشابهة كأني لم ألحظها من قبل. كان الناس من حولي تشتري كل شيء، مهما دنت قيمته، و ما لا يمكنني تصديقه، رأيت أحدهم يبيع (سيفون) التواليت وشككت بأنه لبيتي… أخذني الدوار عندما اندفعت بين مجموعة من البائعين تنادي بصوت واحد على بضاعة واحدة تكالبت عليها الناس، صار الزحام حولهم أكثر من أي مكان، ولم أتبين بوضوح كومة الأيدي المكومة بعضها فوق البعض، وعرفت أيضاً عندما أشترى أحد ما واحدة كانت بوشم أخضر بانٍّ جلياً على ساعدها فعرفتها لصاحبي الذي صاحبني إلي السوق هذا. عرفتها لصديقي الذي ثارت عليه إطلاقه مسدس وشظفت بنانه… كان قلبي يضرب بعنف عندما انتزعه أحد من الذين حولي، ونادى على بيعه فوراً)، واضاف باننا لن نصدقه حتى تدور علينا..
· مقامة (4)

لا ادري كيف أصبحت سائلا لزجاً، بدا جسدي يتضاءل شيئاً متحولا إلى زلال بيض او ما يشبه بلون لؤلؤي غميم. عظامي انصهرت، ولحمي ذاب و بقيت أتركز شيئاً دبقاً هلامياً، متكوناً من فركتوز، كلكوز، بروتينيات، و بلازما منوية و تلك نائمة… أخذت أسيل من على السرير، أريد أن أماسك نفسي- إلا أن حافة السرير منحدرة، فلم استطع أن أعلق بشيء. حاولت الصراخ، لم يكن صراخي سوي فقاعات صغيرة بالكاد شقت كثافتي التي أنظرها جلية في التماعي، وتلك نائمة تغرق في حلم دافى؛ بقيّ البرد يضربني، وأنا أسيل مندفعاً باتجاه ما. قوة تجتذب كميتي كلها إلي ما ليس ادري. لو استيقظت (تلك ) لسبتني، قبل أن ترمقني بنظرة شزرة من نظراتها التي تكشف عن اشمئزازها الدائم .( دون أن ازرع في أحشانها شيئاً). … وتلك نائمة، فسرت باتجاهها ودخلت محشوراً باتجاه العمق المظلم الدافيء، ومرة سرت باتجاه جذر الشجرة و دخلت محشوراً باتجاه العمق المظلم الدافيء، وأخرى باتجاه الماء، مختلطاً معه، منتشراً فيه باتجاه العمق المظلم الدافيء، اذ سرت باتجاه أبي مختطاً بترابه- باتجاه العمق المظلم الدافيء.
· مقامة (5)

وقفتُ أتأمل صرحها، وأنا اشق نفسي في إحتبال النشوق، وكان عندي ليل بهيم يحضره إخوة تعساء، وأهل لا يقيسون ظهر المجن إلا بما يروه. وهم لم يروا إلا ظهر البعير، ولم يقولوا قولا ابعد من سنامه. بقيت أترقب السهل الأصهب الشذيّ بعطره.. ثمة محاور أخرى علي أن انظم سردها.. مثل القدّ واللثم، والأنفاس الأخرى.. كانت الساعة عندي تساوي جدلا بما يساويه الليل من انجاز، وكانت ريح باردة، وكانت أيضا ذئبة جائعة تفتل الخيام باحثة عما يجعلها تواصل الليل بالنهار، ارتجل الخطو العابث، الحمى تتواصل على من معي، وما عدتُ من لهاجي أبدا حيث اختليت مجبرا على ان أكور نفسي باتجاه جنين يعدني بالأمل. عصفت العاصفة وقلبت كل المكان كأنها شرطة تبحث عما توده.. كنت على يقين باني لست هدفا لها، ولكني كنت أقوم واقعد واحلم وأتنفس عبر خيط من ذكرى ياخذني إلى ذكريات تتواصل عندي بالأشياء الأخرى.. الصمت كان قاتلا أبديا لو يدخل عليّ لأنه كان عندي أمل بأنني الملتهم ومعي الضعفاء اللذين يقرون علي شجاعتي التي لا امتهنها.. بقيت ارقب الصدى القادم من العويل، وكان الليل قدما في البرد الذي أثلج قدمي وأيبسهما؛ اذ بقي الصباح يشق رحلته البطيئة، ولم يكن أفقا هناك يدل على أمل قريب… حيث كان الصمت موحلا بتراخيه، والوجد مذبلا كل مآقيه.. قالت تهمهم بنومها، والحمى واصل عليها هذيانها، الأقداح التي ظننتها أقداحا اهتزت في آنية المساء الخائبة.. لم تحوِ حتى فتات وجبة منتهية… الليل يتواصل، وأنا أتحسس ما حولي، واسأل نفسي ماذا لو هجمت عليها الغياب وأنا في الظلمة الحالكة.. أناور حاجز الظلام بما لا ادري.. كم أتعبني هذا الضياع المتناه في السر الذي لا يعادله سرّ آخر، فلا بندقية من حربي السابقة ولا عندي إي افتراض أقاوم به… هل استسلم؟ لا شرق عندي ولا غرب أتأمل به بعدي عبر المكان، والزمان معلق، ومهدم بالرعب الظلام ينشر فوضى من الحس المتواصل بثقل الهواء؛ البرد يمرّ عاتيا في الحواس ويغرقها، بقيت انظر لوحة العماء الكثيفة، وانتظر موتي؛ بقيت وحيدا انتظر حتفي.. بقيت اكتب ضعفي كانسان وحيد..
‏الثلاثاء‏، 02‏ أيلول‏، 2008