محمد الأحمد

محمد الأحمد
كاتب عراقي

Search This Blog

Sunday, May 20, 2007

قصة شاي حار


شاي حار
قصة قصيرة
محمد الأحمد

قلقت بما فيه الكفاية، وقلت محاولاً لأزاحة هذا القلق السقيم :- إنني مفلس في هذه القافلة وحظي فيها أمين، حيث لا املك شروى نقير، ولم أكن في يوم ما طبالا قد أزعجت أحدا، بطبلي، وزمري، أو رفيقاً بلشفياً ساهمتُ بوشايتي، وتقريري في اعتقال أحد.. أو ما شابه، المهم ليس القلق كان باديا على ملامحي، فحسب. وإنما تبين جلياً من خلال الخطاب الإعلامي الواضح الارتباك، قلت مع نفسي مادمت أحدثك يا نفس فأنت حرة مطمئنة إذن. رغبت بقدح من الشاي.. في هذا الحر المقيت، ولكن الكهرباء الوطنية، من المحتمل أن تتأخر، ودونها لا أستطيع أن اعمل على (الهيتر) الصغير الموجود في الغرفة لبعض الرغبات البرجوازية المفاجأة (القهوة، والشاي بالحليب) وما علي إلا أن انزل إلى المطبخ، واعده بنفسي، مادامت شقيقتيّ قد استغرقتا في نوم القيلولة، فالكهرباء لعنة قد جعلت منا نعيش منقسمين في حياتين مختلفتين عن بعضيهما، بوجود الكهرباء الوطنية، واحدة، و الأخرى بوجود كهرباء المحلة (الديزل).. ذلك أمر لن يكون صعب الفهم حتى يحتاج إلى إيضاح في القصد. فالعراق (عراقنا) يا نور العين، وصرنا نحفظ الكلائش الإعلامية من كثرة عرضها في الشاشة اللعينة، أو عبر إذاعتها من كافة البرامج العاملة..
نزلتُ الدرج متهادياً ببطيء عجوز تجاوز السبعين، رغم أني قد وصلت مطلع الثانية، و الأربعين.. بحرمان مستمر. سمعت أمي تطلب من شقيقي أن يقدم لها إيضاحاً.. كونه تأخر ليلة أمس في وصوله إلى البيت.. إلا أن الكلام انقطعت، وتحول همساً، و إيماءات.. لأنها لا تريدني أن اعرف بالأمر الذي يشغلها، وبالتالي من الممكن أن يكون تدخلي سلبيا في أمر قد رتبته وفق ما أرادت هي، و أنهم لا يأتمنوني على سرّ خشية تضمينه عبر القصص التي اكتبها.. وحقيقة الأمر اني غير قادر على التحمل، أنني اكتب، وانصرف، واغلب الأحيان، أنسى تلك الكتابة، حال إنجازها على الورق، أراها تسير لوحدها، و كأنها تكتسي لحما، وتسير إلى النسيان، و أكون قلقا جدا في حال عدم كتابة تلك الأشياء، فالكتابة تستهويني منذ الطفولة، كأني أعيش بها تعويضا عما حرمت منه، أود هنا اسرق وقتا كي أكتب عن تفصيل حدث لي وتسبب في أن أكون كاتباً، والحقيقة فيما بيني وبين نفسي اطمح أن أكون كاتباً حقيقياً يشار إليه بالبنان، كشاهد لعصره.. تناولت القدح الفارغ، لأملاه بالشاي، ورحت اخرج منديلي من جيبي لآخذ (قوري) الشاي من على الطباخ الذي يكون على الدوام في ساعة العصر محملا بالشاي الساخن.. أردت أن اذهب بالشاي دون أن ادري باني لم أضع فيه سكرا، ولكن والدتي كعادتها، نبهتني إلى ذلك… طلب منا مدرس مادة العربي إن نكتب نختار أحد الموضوعين التاليين، اكتب قصة سمعتها، أو قرأتها، والثاني: اذكر بيتين من الشعر واشرحهما، في عشرين سطر، فالموضوع الأول يستهويني، والثاني استفزني وبقي يعيث بي، أن تكتب ملخصا لقصة سمعتها أو قرأتها، وعزمت على أن اكتب له قصة كقصة (بذلة الأسير) التي أخذتني وشدتني إلى عالم العبقري (نجيب محفوظ).. ساعتها رحت اكتب قصة (ولد) في عمري آنذاك كان يعاني من وطأة عراك والديه في ليلة مليئة بالأسى، وأمام (بنت) حلوة كانت فارسةُ أحلامه.. لم انتبه إلا إلى والدي يطلب من شقيقي (مهند) ليعيد عليه ما جرى لـ(طارق) بن الحافية.. ذهني منشغل في استرجاع تلك التفاصيل اللذيذة، ورحت انفخ على الشاي محاولا تبريده، دون أن أتوقف. وقد استوقفني الحديث الذي أحاول أن أتملص منه عندما يبدي به والدي، الذي يقرني بلجوجيته المتعبة.. قال بان زوجته أودعت السجن وأختها، ورجل آخر.. انهم متهمون بقتل (طارق) الحمال.. وبقي مهند يتحدث واصفا الرجل الذي اخبرهم عنه ابنه الذي تجاوز الثانية عشرة، وانه شاهد (فلانة)، وأختها (فلانة)، ومعهما رجل غريب لا يعرفه.. رآهم يضربون بلا رأفة في أبيه، والذي تفجر الدم من رأسه كنافورة ماء، و نفض جسده كما الدجاجة المذبوحة و مات…
تركت القصة التي استوقفتني، بكل ما فيها من تشويق، ومضيت اصعد الدرج إلى غرفتي. قلت سأبدأ الرواية من هذه الصورة التي مات فيها (طارق بن الحافية)، واعتقد بان اسمه يرن في الأذن، ويمكن أن يكون له شأنا ما في سالف الأيام، لاني سأعطيه ما لم يعطه أحد لبطل روايته.. سأصف حالة مواطن عراقي تولد 1948م.. عاش ومات ولم يعرف وجه أخاه كما تقول شقيقتي (وئام) عن شقيقها (شهاب) المفقود.. وتلك قصة أخرى، أو تفرع آخر يصب في نهاية نفس الموضوع، فأي شخص عراقي الجنسية، ولو كان يعيش في الصين (لو ذكر في أي رواية)، لانطبقت عليه مواصفات الشخصية الروائية الفذة، و يكون متفوقا في بطولته الروائية الفريدة، وصار أنموذجا دراسياً تقدي به الجامعات، وتعتمده في مناهجها خير مثال للشخصية التي تحوي على كل النقائض النفسية، والإبداعية المتمردة. فقد أصبح العراقي مبدعا في كل المجالات حتى في كيفية تحويل العدم الكيميائي إلى وجود وكتلة فيزياوية.. اذكر أحد الشعراء المغمورين.. عندما وصل إلى الأردن، فتح حسابا في أحد مصارف (عمان)، القريب من الساحة الهاشمية، وعمم رقم الحساب.. بواسطة الهاتف من أول استقر فيه، وراح يتصل بالأصدقاء الذين في الشتات.. وراحت اسطوانة الاستغاثة تدور:- يا ناس يا عالم.. يا مخاليق.. انجدوا (المنجرة)، (أم النوى)، (العنافصة)، (أم الدجاج)، (التحرير).. طفحت عليهم الحمم، فاستروا أهاليكم، و ساندوهم:- (يا معودين.. خطية.. راح يموتون.. الحصار تره بس عليهم)… وراح المبلغ الصغير يلحق الكبير.. وتضخم بالعملة الخضراء، وعاد به إلى (بعقوبة) أول عمل قام به عند الوصول:- اشترى سيارة (مارسيدس)، وبيتاً فارهاً!.
تجار قضية، وبضاعتهم مربحة. بقيت أفكر من أين ابدأ القسم الأول من الحكاية، وكل الطرق تؤدي إلى روما، قلت، لأبدأ من ليلة أمس، من النقطة التي تفحصت فيها كمية المخزون من مادة النفط (الكيروسين). وقبل أن اشغل الحاسبة، سأفتح الراديو على إذاعة (لندن) التي تتظاهر بأنها لا تقل عن أية إذاعة محايدة في إطلاق الأخبار، ورغم حبي لها عرفتها، وحفظت أساليبها عن ظهر قلب. (وجهان فيها باطن متستر/ للأجنبي وظاهر متكشف) شغلتُ الحاسبة بعد نسيت إنني ابحث عن إذاعة محددة، وتركت المذياع يطلق علي إعلانا عن (شاي مبروك) من إذاعة الشباب. أريد أن أتعلق بقشة وسط هذه اللجج العنيفة من القلق.. المناورة ستكون دامية، وعاصفة، كلما انقطعت الكهرباء، قلت مع نفسي هذا الانقطاع فقط على المحافظات، سأكتب عن ذلك بدقة، حالما ابدأ بالكتابة.. النص في رأسي يسرد بلا توقف، ولكنه لم يتنزل على الورق، النص يسير، لانه متراكم منذ زمن طويل، احسه استحق الآن. بقيت أحاول استلال الخيط الأول من الرواية التي سأشرع في تدوينها، فكل ما حولي، يصلح لها، أريد أن احملها عصرها، أتمنى لها تكون في الحاسبات، و الفيزياء، والروحانيات، و الأساطير، وبقية العلوم، أريدها أن تكون شاملة عن كل ما هو عراقي.. لقد صارت اكبر مفردة في حياتي هذه الـ (العراقي).. البارحة عندما شاهدت فوز منتخبنا الوطني مع منتخب رأيتُ لافتة يرفعها الجمهور(ارفع رأسك أنت عراقي).
‏07‏/05‏/2007

قصة جثة قد تأجل موتها



جثةٌ قد تأجل موتها


قصة قصيرة
محمد الأحمد


حتى وان قارب بلوغ عامه الخمسين، ألانه بقي يعمل بجد كثور الساقية، يعمل عتالاً هنا، بناءاً هناك، أو في الطلاء، وبالكاد يستطيع حمل لقمة بشرف إلى بناته الثلاث القاصرات، والزوجة الصالحة التي رضيت بأقل ما يمكن للإنسان أن يرضاه، وهي برغم مشقة دنياها الضيقة تتملاه في سريرها طويلا، كل ليلة ، مقتنعة برزقها، راضية في كنفه، تتأمله كحارسة ساهرة، مفتول العضل على الرغم من الشحوب، وجهه باسماً في وجهها على الرغم من الحزن الكثيف، فقد بقي ظامئاً وليل القلب مخيماً على طالعه إلى ابد الآبدين، محطوباً في إنسية المرحلة، جراحه بليغة، وثمة آلاف الشظايا قد بقيت عالقة في متون جسده إلى درجة انه من الألم، لم يعد يحسن تذوق الراحة، ولم يعد في ذهنه قاموسا يفسر الأشياء، بمعانيها.. ولكل موضع الم من جسده قصة يتمنى أن يحكيها، ولكن حكايات الآخرين أقسى من حكايته، اغلب اللذين أحبهم، وأحبوه قد إضاعتهم القصص، حيث صارت قصته تالفة، قياسا لما يسمع من قصص، فما من أحد يجلس إليه، ويحكيه الهم الذي أثقل عليه النفس، إلا ويجد عنده قلبه المثخن الجراح الذي تضطرب إيقاع دقاته من تعسف المرحلة التي تلمه، خوف معشش في كل الخفايا التي تحيط به، فيقال بأنه قد عاش قصة حب عاصفة خلخلت خطوته وجعلته يتردد آلاف المرات، قبل أن يتحدث إلى امرأة، يمر على أماكنهن كأعمى، ويسير بينهن بخطوات الملائكة كي لا ينتبهن له، كي لا يوقظن فيه مخاوف أخرى من تجارب، ربما ستكون أقسى، إذ تخلفت في قراره مشقات تركت سنابكها العنجهية مسافات أميال بما لا يقدر خيط دامع على ردمها، أو إخفائها بعد أن قلص حزنه الكثيف الابتسامة إلى الحد الأدنى، ودائما محلقا في فضاء عزلته، كريما، سخيا مع خياله، ويخاف أن يتكرر دخوله صندوق السيارة، (مارقون يركنون سياراتهم قرب السابلة، ويخطفونهم مقابل فدية كبيرة من المال، وإلا القتل المريع) فذلك قد يعني موتا محققا آخرا، غير الذي يراه في الشارع، وغير الذي يسمع به، فصندوق السيارة يعني أخذه إلى جهة مجهولة وسيتم تنفيذ الإعدام به، عاجلا أو آجلا، ذلك بقي كابوسا يراوده، بدلا من حلمه بقصة حب يعزز بها حياته، فقد تنازل عن قصص الحب المتخيلة، والتي كان يتمنى أن تصادفه يوما ما، من بعد أن تزوج وأنجب، وكان مؤمنا بان قصة حب عنيفة ستفاجئه يوما ما، لأنه بقي مؤمنا بان قلبه النائم خلف الأبعاد، لا بد أن يتيقظ، ولا يريد أن يبقى معزولا في زحام العمل والموت، ويغرق إعياء بين مخازن التجار الذين لا يشفقون عليه كثيرا، ولم يجزلوا له العطاء، فترك وجهه خريطة كلمات أضاعتها المعاني، وأوهام تقلصت بالأحلام فهو منذ يومها بقي لا يقترب من اللحم الذي يعرضه القصابون، لأنه رأى الجثث التي نثرها الانفجار، وبيديه عبأ كيساً كبيراً مما جمعه من اللحم البشري، وهو لا يدري لمن هذا الكبد، المخلوط بالمخ، أو هذه اليد المفرومة بالحديد، أو تلك الساق المهروسة بالبارود، شاهد بأم عينه بان اللحم البشري قد كان اقل احمرارا من لحم البقرة الذبيحة، ويومها انقطع عن سماع هسيس الشجر، والعصفور... انقطع عن المحيط وصار يفهم من حركة الشفتين ما يقولونه له، انقطع إلى أقصى الصمت في لجة الضوضاء، والتأتأة العظيمة، بقي يقول في نفسه (أصبحتُ كبيتهوفن لا اسمع سوى سمفونيات نفسي)، بقي يعمل بجد في وقت عصيب، ولم يكن يتنفس بعمله وهو يحمل بضائع الناس إلى سيارة، أو يفرغها.. حروفه عجلى بالتنفس، كونه يعرف بان الأنفاس عليه بحساب، وان تنفس الآن، فان اللحظات القادمة ستكون أصعب، بقي يكرر القول مع نفسه: (نحن جيل الخيبة!)، يطاردنا الموت الماشي بين الناس، ويركض خلفنا.. هذا البغيض الذي له رائحة زنخة، تفوح من الأمكنة، كرائحة لن تفارق مسامات الأنف، رائحة حاضرة بقوة لتثير الأسئلة (ما الذنب؟).. وتحدث ضجة بالغة على الرغم من خيوط الجريمة، المتقنة، برغم من برودة دم المنفذ الذي يختبأ وراء الكواليس، وينفذها بإتقان، و(باردا إلى ابعد حد)... أيدي بصماتها واضحة، خلف قفازات تقصد المحو، تقصد الناس البريئة، تمتد تلك الأيدي لتمس الجيوب، وتصادرها.. أفعالا قذرة... تصنعُ الموت المزخرف بالبشاعة.. موت يتواصل بالأسئلة، والأسئلة تتواصل ما بعد الموت، وتتفاقم كما الرائحة، فمن هذا القتيل؟، و(من ذاك) وكيف اخترقت كل ذلك الكم الكثيف من الطلاقات جثته؟ الصمت يسكن هذه الصورة التي لن تقول سوى أن المجرم يخاف الجثة أن تلاحقه، وهي كذلك سوف تلاحقه أبدا، وبقي يرى جثثاً تزاحم الطريق، تضيق على المارة خطواتهم، وتبتلع المسافات، جثث تبتكر للموت شكلا جديدا لتقتل في الحياة حياتها.. حماقة جهل مرّ.. كأنها قوالب سخية الخيال تحتجز المنطق، فكلما تكلم مع احد عرفه يمتهن الكلام العابر، ويتشدق بكلمات ليست متواصلة برصيد خلقي، وذاته يفعل عكس ما يقول، فالأنفاس اغلبها كاذبة، والبحر الذي يسمع عنه يفيض كالأحداق بات كاذبا، وما من قطرة ماء منسية، فالبحر هو البحر والكذب هو الكذب، وما من ميت يعود إلى الحياة من الكذب، وما من حياة لا تبتلع الأحياء.. كأن المنطق هو ما يفتقد، كأن المنطق ميدان داج أشبه بدماغ هرستهُ سيارة حمقاء لرجل كان سائقها قد أتى إلى المكان مهموماً، حالماً، ساهماً تجرهُ خطوات فكره أكثر كانت أكثر فعلاً من خطوات فعله.. يضحك كما المجنون، فقد أتى ذلك الزمن المكان بسيارة عدت للانفجار، وبخطوة اعدّت للانهيار، وبزمان تائه، رديء، لتنفجر عند حاجز للشرطة، والرجل عند حاجز للرجولة، وعند احتدام الوقت، لم تصب سوى الناس العابرة.. بقي يتألم: (الناس أصيبت بمقتل).. لقد وصل النفوذ الدموي، إلى كل مفاصل الحياة، وجزيئات الهواء.. إلى ما لا يصدق، فالأشلاء المتناثرة إلى السماء، هبطت إلى الأرض، وبقيت السماء تمطر دماً وتساقطت منها أصابعا متفرقة، أعضاءا بشرية، ولحما محروق، برائحة البارود والشواء.. بقي يخاف، وبسر يتنفس، من بعد أن رأى أيدي كثيرة، عيون مقلوعة، رؤوس معبأة بالرعب، والفزع بلا أجساد، أجساد كثيرة غير متكاملة قد ضاعت بقاياها.. بقيت مبخرة وتطايرت متحولة إلى بخار، تسامت إلى دمار بالغ، والأحوال الرديئة تحولت إلى حفرة في الأرض لا تتسع قبرا واحد لهذه الأجساد.. صفير في الأذن، يلاحقها كعاصفة: ضوضاء كانت عالية، وكان الضوء ساطعا، وكان العصف رهيبا، وكان الدنيا ضيقة إلى الحد الذي لا تتسع للبكاء.. يتساءل (ما فعلنا يا رب عفوك)، ذاكرته مليئة بتلك الصورة البشعة التي اختزنتها الطفولة بدقة وتكاد تشخص كل لحظة، بقي يتجول طائفا في الزمن ينفصل كما ظله أو يستبقهُ إلى مراحل اكبر اتساعاً من الخطوات، كل مرة يبقي سؤالاً إلى آخر المرحلة ؛ (كيف مات الشوق إليك يا صديقتي الرائعة.. يا ذات العينين المدهشتين).. أيامها كان يحاول طمس أسئلتها بأسئلة اكبر، كأنها عصفورة مضيئة تطير في ليل ظلامها دامس، تضحك متناسية، وتجره خطواتها إلى الخيلاء فيطبع على فمها قبلته الذكية.. يحول هدوئها إلى نار من الغريزة، ليدمن عليها.. طعم القبلة تملأ روحه.. القبلة تدور.. تحيله من مبتدأ إلى خبر، والموسيقى تشتعل، من بداية إلى نهاية. يقول؛ (أتسرنم، أتسلطن، اطفوا بالخيال، احلق عاليا في فضاء خديّها المحمرين كتفاح ناضج)،.. تسبل عيناها، وتمدُّ شفتيها الكرزيتين رغبة أدركها جيداً، يسأل نفسه: (هل ينفع السؤال؟)، تذوب خلاياه المتوقدة، عاطفته ليست عمياء إلى ذلك الحدّ، ولكن الحلم يقتله أيضا، يرى العالم كله بشفتيها طعم يجري إلى حيث تبتدئ حريته، يهدى نفسه، يحاول أن ينسحب بعقل بدلاً من انفجار قد يحدث، فما زال يرى وجع اللذة على أصابعه، ويسري كلما بقيت معه في الحلم، الحلم تعويضا عن تكاثف الخيبات المتواصلة، حدّية هذه اللحظات.. حدية هذه الطبيعة، وسيد من يحتكم على قوانينها.. باتت قتيلة، من بعد تعذيب كثيف، نالوا منها شر نيل، (ولكن ذراعاي طوقها، أو طوقي ذراعاها).. تدور عيناي في لمعتها الفرحة، العصافير كانت تزقزق سيمفونيتها الشعرية، والنسيم الطيب بدأ يملا الرئتين.. (أحسّ باني قد بدأت أحقق خطوة نحو السعادة القصوى التي كنت ارسمها، واحدد ماهيتها، أتساءل من خلال الوقت الضيق والأنفاس المتسرعة لمَِ فكري مشوش فيمنعني من تميز الأشياء.. ليلُ القلب يمتلأ به جسدي المتفاعل مع درجة حرارة الجسد الذي يلثمني، عيناي تحاذر أن تستسلم لحلم كان الصحو فيه اقل، بمعرفة أقل.. كان صمتاً أقل بمحاورة أقل).. فما ذنب هذه الأجزاء بان لا تجتمع مع بعضها في قبر واحد، كبقية خلق الله، جثث أضاعت أجزائها، أو ضاعت عن بعضها.. (اسحب نفسي تدريجياً من الحلم، تفهم هي الأخرى كل شيء، وتظل قربي صامته تؤلمني ابتسامتها الضيقة).. ليل القلب الظامئ المتعب بمشاوير الفكر… خذلته الترهات.. تفلت أربطة الذاكرة، يبقى السائل الثقيل متناثراً على الإسفلت الذي يحوي الكثير من الذكرى، والحزن، والعاطفة.. كل شيء محض تذكر في هذا الرأس الصغير الذي يحوي على أكثر ما يجب.. تناثر وتيبس.. (أسائل نفسي: إن كان هناك في مزيج السائل الثقيل بعضاً من الفرح، وقد يكون الفرح المادي الأول الذي يمكنني تحسسه).. الميت ينزل من سيارته الفارهة، ويلتفت إلي بقوة وكأني قد قطعت عليه حبل خلاصه، وتتفلت بيسر منه دقائقه، (كأنها تشغلني بسؤال، وأنا اهرب بعيداً عن سؤالها بسؤال كي أنقذ ما يمكن إنقاذه.. صوتها يؤجج السر المكنون المرّ، فأهزّ أبراجها العالية بهدير من كلمات خائبة: - أقول لا تجعليه يرضيك بهذه الصورة فأنت الأجمل والغاية النهائية، فلا تكوني بين عينيه الساذجة، الواضحة، السهلة؛ فيقضها ويفجر أسرارها ساعة يريد.. حاولي أن تكوني الجوهرة الغامضة ليتسنى تحقيق ما تشائين).. ضوء جميل.. يزدره إلى عمقه المكنون الداجي العميق.. المعرفة قوة.. قوة ليل القلب بما يمتلك من معرفة، (كانت قد بقيت في الشارع، لقتيل عائد إلى البيت، وأضاعت الطلقات مسيره، بعد أربع أو خمس منها، بقي يشخر كالخروف الذبيح.. تمددت لوحدها مخيفة كل المارة، إلى جانبها خيط من الدم، وقد سار لوحده إلى الساقية، واتحد الدم بالماء الآسن، ولكن الشخير ارتفع عاليا.. ثم حضر المشهد من الجهة الأخرى رجلا آخرا، صوره بالموبايل، وبعد ذلك بصق عليه، أي جثة مثيرة هذه؟، وعاد الأول واضعا فوهة المسدس في فم القتيل، وأطلق من جديد رصاصة في فم الجثة وتفجر رأسها، وتناثر بعض الدم على ثياب الأول وبقي (الموبايل) يصور، قد افترش وجه القاتل، ولكن القتيل انتفض بقوة اكبر، ومرة أخرى، في كل مرة يرشق الدم وجه القاتل، والقاتل يبصق فوق القتيل..)، كان من يرى يروي لي بلا خوف بقي يقول؛ بان القاتل قد اخرج شيئا من جيبه ورماه قرب الجثة، لم تكن رسالة، ولم تكن هوية، ولم تكن سوى حاجز يربح به الوقت، ويضيع الدليل، غاية منه تغير مسار الأسئلة، ولكن الأسئلة لم يكن لها سوى اتجاه واحد سوف لن تحيد عنه، وان سكتت الناس يوما، فإنها لن تسكت إلى الأبد، و سوف تقول ما لم تقله في حينه بان القصة حقيقية، وقد جرت وروت نفسها، (فمن بعيد كانت الشرطة تراقب الحدث، وربما كانت تخاف الاقتراب، أو لا تخاف.. تعرف أو لا تعرف، تعرف القتيل والقاتل فلن تخافهما مستقبلا، بقيت في لحظة محايدة مضطرة الحياد.. (كانت الكلمة صورة تطوف فوق المعنى لتحرره من الاندلاع، كصدمة ستوقع المخاوف)، ولكن السوق بقي ينتظر الناس بلا سؤال، فمذُ كنت صغيراُ.. كنتُ أحصى عدد النجوم فوق دارنا، وبعد أن كبرت صرتُ أحصي النجوم فوق الحي كله، فبعد الخمسين اروي للناس قصص الدم والجثث الخائبة التي لا تدفن مع بقية أعضائها، وأقول في تعب بان أبي كان يمنعني من روي ذلك.. ينتصب أمامي بفخذيه الهائلين مشكلا، مثلث متساوي الساقين مع الأرض. أقول هذا مثلث.. فيضربني، ويلعن حظه؛ ظننا منه باني أشير إلى أسفل بطنه، فاضحا عورته، والناس تتبادل القول: (كل من خرج من بيته مفقود، وكل من عاد إليه مولود)

بعقوبة
‏16‏/04‏/2007

Friday, May 4, 2007

خبر عن كتاب جديد 2007
صدرت مؤخرا للقاص (محمد الأحمد) مجموعة قصص جديدة عن دار الشؤون الثقافية العامة بغداد 2007م بعنوان (زمن ما كان لي)، وقد حوي الكتاب الجديد على أكثر من عشرين قصة قصيرة، و بدت اغلبها مترابطة مع بعضها بزمن روائي واحد، ومكتوبة بضمير المتكلم الحاضر، لتؤرخ مرحلة من مراحل العراق المهمة، وقد امتازت بالجرأة على صعيد التجريب والبوح. ويعد هذا الكتاب السابع في تسلسل منجزه الإبداعي، الذي تضمن روايتين (حركة الحيطان المتراصة)، (ورد الحب.. وداعاً)، وأربعة مجامع قصصية (جمرة قرار ابيض)، (أربع وأربعون متوالية)، (بعد الجمر قبل الرماد)، (مابين الحب والحب)..
5/5/2007