بقلم
محمد
الاحمد
1
بقيتُ
كلما أنزل درجة من الدرجات الهابطة الى القبو المظلم العتيق، تضرب بأنفي رائحة
العفونة المتصاعدة، والرطوبة المتضوعة من باطن الأرض. بينما أشدّ بأصابع يدي
اليسرى ضغطاً على المصباح الصغير الذي دعمتهُ ببطارية جديدة، تحسباً للطوارئ. بدت
الدرجات الخمس عشرة تتداخل مع بعضها، وتصرّ تحت قدميّ، كأنها غير محتملة بدانتي،
وأنا أحس ليونة الدرجات، رغم ثباتها تتطوح بيّ. فأوجه ضوء المصباح الى موضع القدم
مرة، وأخرى أحولها إلى أمام دون أن أجد شيئا يعيقني عن الخطو، لاهبط متوغلاً الى
العمق. في تلك اللحظة فكرت أن أعود أدراجي، و أؤجل رغبتي بالاكتشاف الى ما بعد
تجهيز المكان بضوء الكهرباء الذي سييسر الرؤية.
ولكن الدرجات الصغيرة
جداً والمتتابعة وصلت بيّ الى الأرضية، وراحت قدماي تتحسسان تراكم التراب الناعم
الذي يشبهُ الدقيق عندما تتحسسه الأصابع..
كان ضوء النهار الذي
دخل من الباب الخارجي قد وضح لي الباب الكبير الذي واجهني بعد الدرجة الأخيرة
مباشرة، وعليه مطرق نحت على هيئة "ذيل ديك" في غاية الجمال.. دفعتُ
الباب برفق، وتبيّن لي أنه كان مقفولا من الداخل، طرقت بالمطرق ولم يرد عليَّ أحد،
وإذ به يتخلخل متهشماً غير محتمل لدفعتي وفتح على مصراعيه مهيجاً البوغاء [2]،فصرت
بعطاس متواصل،ولكني دلجتُ مندهشا إلى دكنة الباحة متفرسا رجع الصدى..
نقلت المصباح الذي
إلتفت عليه أصابعي بقوة، وصارت دائرة الضوء الصغيرة على مكتبة جدارية ، فاجأتني.
وتقدمت أليها أكثر حتى أصبحت على مقربة خطوتين. حدقتُ في ما يحيط بي من أشياء، ولم
يكن بجانبها سوى منضدة كتابة واطئة، عليها سراج زيتي. وبقربها كرسي صغير متحرك مثل
الذي يستخدمه المعوقون. رحتُ أتقدم نحو المكتبة التي اجتذبتني بكتبها المتراصّة،
وأخذت أزيد شدّاً بأصابعي على المصباح الصغير، مثلما يشد الفارس اللجام على الفرس
المنطلقة بلا هوادة. وقبل أن تصل أصابعي الحرّة الى الكتب، أزحت من أمامي نصف كرسي
آخر واطئ أيضا. تعثرت به، وبعدها وصلت الى المجلدات الكبيرة التي رصفت بعناية
فائقة، وحسب تسلسلها بالحجم..
مسحت برؤوس أصابعي التراب الذي أخفى
لونها، وبدت لي أكثر قتامه بسبب الضوء الشحيح. ولم أستطع أن أقرأ أي عنوان رغم أني
قربت المصباح من حافة الكتب، ولم يكن لي بدٌّ إلا أن أسحب كتاباً لأعرف أي كتب هذه
؟ كان ملتصقاً مع الآخر الذي بجانبه،
وبذلت مجهوداً كبيراً عندما سحبته إليَّ مرة أخرى، فوجدته خفيفاً، وأوراقه ملتصقة
ببعضها. وبعدما فتحته تبيًن لي كالعلبة الفارغة إذ نَخَرَتَهُ حشرة الأرضة من
الداخل، ولم يبق منه سوى هيكله الخارجي، فأعدته الى مكانه خائباً، صرت أقلب كتاباً
آخر، وآخر: حتى تيَقنت بان الكتب جميعها طالتها خراباً تلك الحشرة الفاتكة
بمجموعها المقدر اكثر من خمس مئه كتابا، فقلت:
- أنها ثروة عظيمة تفوق أية ثروة..
أقشعر بدني، تراجعت خطوتين عندما سمعت
صوتاً ما، تهيأ لي أني سمعته، ووجهت الحزمة المنطلقة من مصباحي يميناً وشمالاً،
ولم أجد شيئاً يدل على الصوت سوى مسحف هنا،أو وزغ هناك. فقلت: لا يمكن أن يكون ذلك
الصوت إلا تهيوءآت!.
بقيت رائحة الكتب في أنفي، بالرغم من
العطنة.. مثل أي روعة تتخلل الروائح المزيجة، مثل فرح عابر تخلل الحزن المقيم..
فرحي أول رؤيتي للكتب، كان طاغياً، ولم يكن إلا انكساراً بعد أن ضربتها القتعة!.
وجهت الضوء الى الأرض، وكان البلاط
معفراً، ورحت أتابع ما يسقط عليه من الضوء الشحيح. أخاف أن تلدغني حشرة ما من
الهوام، ولكن فصل الشتاء جعلني مطمئناً..
كنتُ متيقناً بان أصحاب الدار الذين
تناوبوا على ملكيتها ظلوّا لا يعلمون شيئاً عن هذا القبو على الإطلاق .. و إلا
لكانوا ذكروه، أو لاستفادوا من خنثره [3]
شيئاً، وخصوصاً الأخير منهم الذي عرفته بخيلاً الى حدّ اللعن، فقد أتفق معي على أن
تكون كافة التكاليف الرسمية على عاتقي، لم يكن أحد قد سكنه من الذين اشتروه عرف
القبو، ولم يكن لأحد منهم الوقت الكافي ليكتشف ذلك، لأن بابه الصغير كان مخفيا تحت
التخت الخشبي العتيق والثقيل الذي أهمل تحت الدرج مباشرة، وكأنهُ قطعة مشؤومة
مهملة لن يستفيد منها أحد. لم أستطع التخلص منه إلا عندما ساومت أحد تجار الأثاث
العتيق برفعة من البيت دون مقابل، وكان مرتعاً لمملكة حشرة الأرضة، وما أن ازيل
ذلك التخت الهائل حتى بان الباب الحديدي الصغير، المرتجّ بقفل ومزلاج كبير.
منذُ تلك اللحظة عزمت
على فتحه، بفارغ صبر.فاستعنت بالحداد لأجل تلك المهمة الشاقة، التي عانى منها
كثيراً قبل أن يكسرها بالرغم من الصدأ الذي طالها. كلفت الحداد جهداً كبيراً وآلات
كثيرة حتى فتحه بعد أن أصابني الإعياء.. بفتح باب الفضول التي أرقتني طويلاً- ولم
أؤجل الدخول بعد أن دفعت للحداد أجرته ودون أن أتفوه بكلمة واحدة لأي كان، ولم تكن إلا ثوان قصيرة حتى انحشرت في
الباب الصغير المؤدي إلى الدرج. كأني متطوّح إلى
العمق الداجي وحزمة ضوئي حبل خلاصي .. كأن الأرض لينه تحت قدمي ، ستغوص بيّ ،
وتبتلعني فأزيد من شد أصابعي على المصباح
الصغير..
أزحت الهلل[4]
الذي لصق بوجهي عندما قفزتُ خطوتين جانباً بعدما سقطت على قدمي دواة فارغة كانت
قرب المكتبة،سحبتها بطرف كمّ قميصي دون أن اعي ذلك، وأخذ قلبي يضرب كطبول مضطربة
بجنازة ملك عادل، دون أن أعرف كيف فاجأني الرعب الذي كان بداخلي،الأجدر بيَّ أن
اقهقه في هذه الدهمه حتى أنتصر على ذلك الخوف الغريزي الذي كان يسكن مترسباً في
قعر أعماقي دون أن يظهر على السطح.
في تلك الأثناء كنتُ قد أقتربتُ بقفزتي
من تخْتٍ آخر شبيه بالتخْت الذي كان يخفي باب القبو، ولم يكن عليه سوى حصير مصنوع
من سعف النخيل، وقد غطاها المازن الذي نزل من ثقب الحائط وعلى بعد بضعة أصابع من
الثقب رأيتُ فسيفسة نحتت على شكل تنين صيني، وبلون غامق، فوجهت حزمة الضوء الى
المنضدة الثانية التي تشبه منضدة محاسب إنكليزي. برشاقتها، ودقة نقشات حافتها التي
تلمستها محفورة على الخشب الصاج الذي لم يَطلها الدُّعر تأكد لي ذلك من خلال
محاولتي في الضغط على حافتها القوية. بعدها فتحت الدرج الوحيد،واجهتني مجموعة من
الأوراق النقدية القديمة عليها حروف غير مفهومة ومجموعة أخرى من ورق اللعب، ودفتر
مذكرات يومية صغير، قررت حمله معي لأقرأه تحت ضوء كاف..
رفعتُ الدفتر وجعلته تحت إبطي الشمال
دون أن اطويه، مقرراً الصعود الى البيت وأنا أحول حزمة الضوء من مكان الى آخر
حولي، ورأيت آلة لفتح الورق مع بعض القصبات كالتي تُستخدم للخط بالحبر الصيني،
ورأيت أن آخذ السراج الذي كان معلقاً على الحائط لفحصه وتجريبه و أواصل بعد ذلك
محاولتي لاستكشاف المكان الذي لم يكن مكاناً مألوفاً، بل كان ضرباً من الخيال، ولن
يكون موضع تصديق؟.
2
في السطور القادمة
التي أكتبها، حكايتي ولا أريد أن يعرفها أحد قبل أن أموت و أضع لها نهاية من
نهايات القرن الذي شهدت بدايته هزيمتي، و بداية ما لا أريد أن يعرفه أحد غيري،(
كلمات غير واضحة) اخترت طريقة موتي في هذا القبو( كلمات غير واضحة)، ما استطعت قبل
أن ينتهي ما عندي من طعام أعددته ليكفيني مدة عشرة أيام لاغيرها، وبعدها سيكون
مصيري مصير أولئك الذين قرأت عنهم ما قرأته( كلمات غير واضحة) قدرته فقدرته حكماً
على نفسي. ( كلمات غير واضحة) لأني أعتبر الجسد تابعا (رسمة تشبه الملك في ورق
اللعب)، وبموت صاحبه عليه أن يلحقه بأي حال من الاحوال، وأن يدفن حيّاً ذلك
الجسد..
تشوقت لأن أستمر في
القراءة، ولكن معظم الحروف قد تشوهت، ولم أقرأ شيئاً سوى مقاطع هنا و أُخرى هناك
ملخصها:
(( انهُ أحب امرأة، وأحبتهُ حبّاً جمّاً
خالصاً))، ((وتعودت أن اصنع كل شيء لنفسي، فكلما هو حولي من بناء ومحتويات ..
صنعته بيديَّ هاتين التي أكتب بهما)).
((فتح داره مقمرة، ثم جمع مالاً كثيراً، واستطاع
أن ينزع المرأة التي أحب من زوجها بعد عدّة تحديات فاز بها. ولكن أحداً آخر رسم له
ما جعله يخسر المرأة والدار.. )).
تشوقت لرؤية الأشياء
الموصوفة كلها، في الأوراق المكتوبة ، ولم
اكن قد شاهدت أي باب أخر في القبو. عرفتُ من خلال قطع الورق التي تفتت معظمها بين
أصابعي..فآثرت أن أعود إليه من جديد!.
3
فتحتُ الباب، ورأيت
رواقاً يؤدي الى باب أخر يشبه الباب الذي واجهني، وفتحته ورأيت تختاً آخر يشبه
التختين الذين رأيتهما، وعليه بقايا رفات بطل قصتي برأسه الكبيرة، وجسده الصغير
الذي لم يبق منه سوى عظام في ملابس مجعلكة، قبالة التخت الخشبي صورة امرأة مرسومة بالزيت في غاية الجمال، ولم أتمالك نفسي
حتى انتزعتها من الحائط، وقررت أخذها معي..فتبين لي ان ثمة بابا آخر خلفها كالباب
الذي فتحه الحداد ..!.
4
في الصباح لم أحدث
أحداً عما رأيت، وجلست الى منضدة الكتابة، مقرراً تدوين كل ذلك في كتاب.